السبت، 26 يناير 2013


حافظ إبراهيم

بقلم/ مصطفي محمود علي
mostafamahmmoud_28@yahoo.com

    شاعرنا الكبير (حافظ إبراهيم) المعروف بـ"شاعر النيل" عاش حياته غاضباً من كل شئ حوله، بسبب فساد المجتمع، وتردّي الأوضاع السياسية والاجتماعية... بالرغم من أنه عاش في زمن كان المرء فيه يجد علي الحق أعوانا .. فعصره كان يضم رجالاً أكفاءً، أمثال الإمام محمد عبده ومصطفي كامل، وعبدالله النديم، والشيخ سليم البشري، وغيرهم .. فهؤلاء رافقهم –شاعرنا- وجلس إليهم ، واستمع إلي خطبهم ودروسهم، ووجد ضالته عندهم ، فاستلهم آرائهم ، وسار علي نهجهم ، واكتسب منهم أجمل المعاني، وأرقي المبادئ والقيم كالشجاعة ةالوطنية، والعصامية.. فما أجلها من قيم ومواريث، وما احوج الناس إليها في دينهم ودنياهم ..فلو توافرت هذه الأخلاقيات بين البشر، لما تاه الناس في فلورات التيه والضلال، وما عم الظلم والإستبداد وما أصابهم من الذل والقنوط واليأس ما أصابهم.
    عندما أُلحق (حافظ ابراهيم) بسلاح المدفعية بالسودان تبرم وضاق ذرعاً بالعيش هناك، فأرسل كتابين إلي الإمام محمد عبده يشكو فيهما سوء حالة، وأنه حلّ حلول " الكليم" في التابوت و"المغاضِب" في جوف الحوت بين الضيق والشدة، والوحدة والوحدة .. لا بلْ حل حلول الكافر في يوم الحساب بين نارين: نار القيظ ونار الغيظ. فاستنجد بالإمام ليتوسط لدي المسؤلين  لنقله إلي القاهرة.[1]
    لّما عاد إلي  القاهرة ازدادت صلته بالإمام توثيقاً، فكان يجالسه كثيراً في دروسه، وكان الإمام دائماً يعطف عليه ويمده بما يحتاج. وقد روي العقاد نقلاً عن حافظ إبراهيم مفسه أن الإمام محمد عبده تسلّم من حافظ أكثر نسخ قصة "البؤساء" بعد صدور الجزء الأول، ثم أسلم حافظ من ثمنها ما يكفيه سنوات! لولا أن رزق السنوات- كما يقول العقاد- لا يتجاوز في يدي حافظ مدي الشهور، وظل عائشاً في كنفه مبره خمس سنوات قلّما كان يفارق مجلسه فيها فأفاد منه علماً وخلقاً وإدراكاً صحيحاً بشؤن الحياة، كما افاد التعرف إلي عظماء مصر وكبار رجالاتها وقادة الرأي فيها أمثال: مصطفي كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وغيرهم من زعماء السياسية و الفكر والأدب.
     لكن المثل الأعلى لحافظ هو "محمود سامي البارودي" رأس المدرسة الكلاسيكية الجديدة وباعث النهضة الشعرية وكان حافظ يدعوه بــ"أمير القوافي" ويري نفسه تلميذه وفتاه، فتطاول طموحه منذ اخذ في نظم الشعر إلي مقام البارودي. وهناك بواعث كثيرة قربت بينهما، فحافظ قد اختار حياة الجندية كما اختارها البارودي من قبله، وحافظ كان مفطورا كصاحبه علي إثار الجزالة والإعجاب  بالصياغة والفحولة في العبارة.
    من هنا كان حافظ إبراهيم أقرب إلي "التراثية" من شوقي بينما كان شوقي أقرب إلي "التجديدية" والتأثر بالثقافات الأجنبية من حافظ، فوجد حافظ في العبارة القرآنية المثل الأعلى في التراثيات فطّعم بها شعره.. أو كما قال العقاد: "كان مفطوراً بطبعه علي إثار الجزالة والإعجاب بالصياغة والفحولة في العبارة".
    كان حافظ من أشد الشعراء حرصاً علي اختيار اللفظ وتذوق الجرس الذي يقع في أذنه وفي نفسه حين يختاره، وكان حريصاً علي أن تكون ألفاظه فخمه تحرك المشاعر وتثير العواطف، وكان أشد ما يكون حرصاً علي ذلك في مطالع قصائده، وقد وجد في الكلمة القرآنية والأسلوب القرآني مثله الأعلى الذي يُغذي هذا الطابع لديه، ولعلّ هذا كان من ثمار مجالسته وحضوره دروس الإمام محمد هبده، إذ يقول حافظ: فقد كنتُ ألصق الناس بالإمام، أغشي داره وأرِد أنهاره وألتقط ثماره..." فاستعمل –شاعرنا" ألفاظ القرآن ليجذب ويتصيد المشاعر لما لها في الأسماع من نغم محبوب جذاب.
   لكن مهما تحدث المتحدثون، ومهما كتب الكاتبون عن الصفات النادرة والشمائل الجميلة التي اتسم بها (شاعر النيل) فلا أحد يستطيع أن يغفل شجاعته وجرأته، فلا يحاربه أديب في إقدامه وشجاعته، وذلك في مختلف أطوار حياته ومواقفه هذا هو السبب الذي غاب عن كثير من الناس في سرّ العلاقة المتينة التي ربطت العقاد بحافظ إبراهيم.. فكلاهما يتسم بـ"العصامية" وهذه الصفة لا يقدر عليها إلا أولوا العزم من الرجال.
   فهؤلاء عاشوا كراماً، وللم يتسلقوا مع المتسلقين، أو يرقصوا مع الراقصين! بلْ عُرضت عليهم المناصب الرفيعة فرفضوها، وأداروا لها ظهورهم، في سبيل أن يقولوا كلمتهم غير مكترثين بجاه أو سلطان .. وذلك عكس كثير من أدباء هذا الزمان الذين يتاجرون بقضايا أوطانهم وأمتهم، ويُسوِّقون النظريات الفاسدة باسم "الاشتراكية" والعلمانية" و"الحداثة" و"التنوير" و.. ويصعدون بالرشاوى والكذب والعمالة ، بل يصعدون علي أكتاف الضعفاء وجماجم الموتى، ويبيعون آخرتهم من أجل عرض زائل وسراب خادع !
    من مواقف "حافظ السياسية؛ انه حمل علي السلطان التركي عبد الحميد حملة شعواء، وأسرف في هجائه إسرافاً شديداً بسبب ضعفه وترهل كيان الأمة في عهده : فقال في هجائه:
بُيح حِماها وانطوي مجد ربها
وقامت علي البيت الحميدي نوائبه
ولم يغنِ عن عبد الحميد دهاؤه
ولا عصمت عبد الحميد تجاربه
ولم يحمهِ حصنٌ ولم ترم ِ دونه
دنانيره والآمر بالآمر حازبه
ولم يخفهِ عن أعين الحق مخدعٌ
ولا نفق في الأرض جم مساربه
وأصبح في منفاه دونه
يغالب ذكري ملكه وتغالبه
يناديه صوت الحق ذقْ ما أذقتهم
فكل امرئ رهن ٌ بما هو كاسبه
 إلي أن قال:
مضي عهد الاستبداد واندكَّ صرحه
وولت أفاعيه وماتت عقاربه

كما حمل حافظ بشدة علي كثير من البدع والضلالات التي تسئ إلسي الدين، حمل أيضاً بشدة علي صنف من العلماء والفقهاء الذين لمْ يراعوا قيمة العلم وقداسة الفقه، فسلكوا طريق النفاق والكذب والفتن والوقيعة في سبيل تحقيق أهداف وغايات دنيا: فيقول:
كمْ عالمٍ مدّ العلوم حبالاً
لوقيعةٍ وقطيعةٍ وفراقِ
وفقيه قومٍ ظل يرصد فقهه
لمكيةٍ أو مستحل طلاق
يمشي وقد نُصبت عليه عمامته
كالبرج لكن فوق تل نفاق!
يدعونه عند الشقاق وما دروا
أن الذي يدعون شقاق

   تظهر وطنية حافظ في مناوأته للظلم والظالمين، فالظلم هو شر الظلمات وأبعدها أثراً في المجتمعات، فالظالمون لا يراعون حق المواطنة، ولا حق الدين فعلي أيديهم يخرب الوطن ويدمر بنيانه، ويسلطون جورهم علي أبناء وطنهم وأبناء دينهم، وفي ذلك يقول حافظ:
لحي الله عهد القاسطين الذي به
تهدّم من بياننا ما تهدما
إذا شئت أن تلقي السعادة بينهم
فلا تكُ مصرياً ولا تكُ مسلما
سلام علي الدنيا سلام مودّع
رأى في ظلام القبر أُنساً وغنما

   في أشعاره يتغني حافظ  برأي الجماعة الذي يعتمد علي قاعدة الشورى، فهي سرّ سعادة الأمم، أمّا الإنفراد بالرأي والاستبداد، فيجلب لها الشقاء والخراب:
 رأى الجماعة لا تشقي البلاد به
رغم الخلاف ورأى الفرد يشقيها

لحافظ إبراهيم عدد كبير من القصائد الساخطة علي الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر، ويكشف عن مدي الفساد  والانحلال الذي أصاب كيان الأمة، وأوهي عزيمتها، وإذلال فرسانها .. فكأنما – شاعرنا- يتحدث عن أيامنا هذه، فلا تغيير ولا تبديل، إلاَّ في الأسماء والألقاب، بل حتى الأسماء تتكر مرة أخري بمرور الليالي والأيام ، فاستمع إلي – حافظ- من قصيدة في شؤون مصر السياسية، قالها في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا..     وقد نظمها حافظ بعد إحالته إلي المعاش في سنة 1932 وكانت تبلغ نحو مأتي بيت لم نعثر منها إلاّ علي هذه الأبيات:[2]
قد مرَّ عامُ يا سعاد وعامُ
وابنُ الِكنانةِ في حِماُه يُضَامُ
صَبٌّوا البَلاء علي العِبادِ فنصفُهُم
يَجبي البلادَ ونِصِفُهُم حُكامُ
أشكُوا إلي (قَصرِ الدُّبارِةِ) ما جني
(صِدقيِ الوزِيرٌ) وما جَبيَ (عَلامُ)


[1] محمد عبدالشافي القوصي: شعراء في مواجهة الطغيان، ط الاولي، مكتبة جزبرة الورد،  2011 ، ص133

[2] [2] محمد عبدالشافي القوصي: شعراء في مواجهة الطغيان، ط الاولي، مكتبة جزبرة الورد،  2011 ، ص 137

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق