الخميس، 11 يوليو 2013

محمود بركات حسين (أحد مشايخ قرية عرب مطير)

محمود بركات حسين
بقلم / مصطفي محمود علي
لقد امتلك ناصية القلوب وذهبت العيون تنظر إليه حيث كان؛ وتتقصي الحقائق وتتساءل في كل لحظة، عن هذا الرجل الذي ذاع صيته هنا وهناك، وتعالت الأصوات تنشده، فعاش حياته يُنفس الهموم عن المظلومين ويكون لهم سنداً قوياً، فهو أحد الذين تقوم لهم الدنيا ولا تقعد، فعندما يحدث التنافر والعداء بين القبائل والعائلات، علي الفور يجدونه، ليفصل بينهم ويعيد الحق إلي أهله، غير آبه بمن كان عليه الحق، المهم والأهم عنده هو أن يعيد الحق إلي أصحابه، وهذه الطبائع هي طبائع القبائل العربية التي منها، الشجاعة والكرم والشهامة .. ومن أجمل ما حض عليه الإسلام هو الصلح بين الناس؛ ويعتبر موضوع الصلح ذا أهمية كبرى لما له من أثر في حياة الأفراد والجماعات بداية من الأسرة والقبيلة، وبين الشركاء بل حتى بين الدول والشعوب، والله تعالى يعلم بحتمية وجود خلافات بين كل هؤلاء، ولكن يذكرنا الله عز وجل، بشعار لا بد أن نعود إليه في كل الظروف وقد قال الله عز وجل في محكم آياته: ﴿ فلا جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (سورة النساء، الآية 128) وقال أيضاً: ﴿...فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (سورة الأنفال، الآية 1). وقد ربط الله تعالى الصلح بتقوى الله تعالى، فالذي لايؤمن بالله ولا يتقيه لن يجنح للصلح.

   هذه قيمة الصلح وما لها من وثواب عظيم عند الله عز وجل، وهناك من الرجال من سخروا أنفسهم لخدمة الناس، والصلح بين المسلمين فيما يقع من المشاكل، ولا يدخرون مالاً ولا جاهاً في سبيل إقامة هذا الواجب الاجتماعي، ومن بين هؤلاء "محمود بركات حسين" أحد أبناء قرية (عرب مطير) التابعة لمركز الفتح، هذه القرية معظمها قبائل عربية أتت من شبه الجزيرة العربية، فبين الحين والآخر تقع المضايقات، وتتعصب القبائل لبعضها البعض مما ينذر بوقوع قتال بين الجانبين لا يُحمد عقباه، وفي وقت اشتداد الأزمة يخرج العقلاء من بينهم محاولين تهدئة الأجواء بالحكمة والموعظة الحسنة، وعن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوبَ ألا أدُلُّكَ على تجارةٍ قال: بلى، قال: "صِلْ بينَ الناسِ إذا تفاسَدُوا وَقَرِّبْ بينهُمْ إذا تباعدوا". ومن الحوافزَ التي وضعها الإسلامُ للمصلحينَ بين الناسِ أن من يدفعْ منهمْ من مالهِ في سبيلِ الإصلاحِ أجازَ لهُ الإسلامُ أن يرجع بما دفعهُ من مالٍ، فيأخذها من الزكاةِ أو من بيتِ مالِ المسلمينَ ولو كان غنياً .وأقول للمصلحين والمشتغلين بالإصلاح هنيئاً لكم أن اخترتم سبيل جند الرحمن وعاكستم اتجاه الشيطان الذي يحاول ان يوقع العداوة بين الناس.

لقد كان محمود بركات احد هؤلاء المصلحين، وكان يحظي بصيت واسع خاصة بين القبائل العربية الموجودة بمصر، أمثال قبيلة عرب مطير، وعرب العطيات، وعرب الأحصار، وعرب القداديح، وعرب الكلابات .. وغيرها من هذه القبائل، حتى القبائل البدوية السيناوية كانت له بهم معرفه، فعرفه القاصي والداني، والفقير والغني، وهو مع ذالك في كامل التواضع حريص علي وحدة الصف بعيد كل البعد عن الفرقة. 

الثلاثاء، 2 يوليو 2013

احدثكم عن اعظم شخصية من أسيوط

محمود باشا سليمان
رئيس حزب الامة


History2010@hotmail.com
بقلم الباحث/ مصطفي محمود علي
   حقاً لقد قال الشيخ "مصطفي عبد الرازق باشا" شيخ الأزهر: "كان محمود باشا سليمان، رجلاً وجيهاً في قومه، جمع بين جلال السن وجلال المجد القديم والغني الموروث، من بيت حُكام إداريين في إقليم الصعيد، في ذلك العهد الذي لم يكن يصل فيه إلي مناصب الحكم من المصريين إلا القليل".
   ويقول الكاتب الكبير "محمد حسين هيكل": ".. وهذا أيضاً محمود باشا سليمان قد مات، فأضاف حلقة إلي سلسة عظماء مصر الذين ودعوا عالمنا في السنتين الماضيتين، لكنه ودعه علي صورة غير تلك التي ودعوه عليها، هم كانوا بين مُجاهد تحفزه قوي الشباب للجهاد، وآخر بعض طبعه الكفاح، وثالث اضطر لاعتزال الناس اضطراراً، أما هو فجاهد لخير وطنه في شبابه، ثم جاهد له في كهولته، ثم جاهد له وقد نيف علي التسعين، وبعد اعتزامه الانقطاع إلي الله وعبادته، فلما دب الخلاف بين المصريين، واندلع لهيب الفتنة في البلاد، نأى عن الفتنة مختاراً وعكف علي ما اعتاد من عبادة وتقوي، وظل في تقواه وفي عبادته ينتظر بقلب مطمئن ونفس هادئة، اليوم الذي يختاره الله فيه إلي جواره، فلما كان يوم الثلاثاء الماضي أغمض عينه عن عالمنا هذا  ليفتحها هناك[1] في العالم الذي قضي سنينه الطويلة يرجوه، عالم أجر وسعادة لا يعرفان الزمان ولا المكان لأنهما يسموان علي كل زمان ومكان" .
   كان "محمود سليمان" رجلاً ذكي الفؤاد، موفور التجارب، واسع السياسية، رحب الصدر قوي الإرادة والشكيمة، في رزانة وحلم وتدين، هذا بالإضافة إلي كرم أخلاقه التي امتاز بها، وتميز بها، فهو ابن "أسيوط" بلد الشهامة والرجولة، التي مدحها "حسن العطار" [2]قائلاً:
سقياً لأسيوط ذات الظل والشجر
ومُرتع اللهو واللذات والزهر
منازل بصنوف العيش عامرة
يلهو النديم بها في مشتهي عطر

   وليس كثيرون من أبناء هذا الجيل من يذكرون شخص "محمود باشا سليمان" وإن كانت أجيال مصر المتعاقبة، وكان تاريخ مصر يذكره أطيب الذكر؛ وليس كثيرون من يذكرون هذا الرجل المهيب في وقاره، النحيف في جسمه الطويل القامة في اعتدال، الحاد النظرات، الأسمر اللون المشيب.
   هذا الرجل قد غادرنا بعد أن طوي رحلة الحياة في أناة وتؤدة ووقار، وانتقل منها في مثل هذه التؤدة والأنة والوقار إلي جوار ربه وما يرجوه من حسن ثوابه، غادرنا بعد إذ خلف وراءه تاريخاً حافلاً جليلاً وذكراً لا تشوب سواطع نوره شارة من ظلام، فلقد وهب هذا الرجل حياته كلها لله ولوطنه ولأبنائه. كما يقول محمد حسين هيكل.
   وكان في "عهد إسماعيل باشا"[3] رجلاً مسموع الرأي نافذ الكلمة، ترك عُمُدِّيَّة بلده ساحل سليم ونظارة القسم التي تتبعه، إلي وظائف وكيل مديرية في (جرجا) وفي أسيوط، فلما صدر القانون النظامي بعقد مجلس النواب في عهد توفيق باشا تقدم للنيابة عن الأمة، وانتخب عضواً بمجلس النواب وألقي عليه أن يلقي خطاب العرش، وكان له في هذا المجلس مواقف يذكرها له التاريخ[4].
   لعل موقفه من الاشتراك في الثورة العرابية حينما شبت نارها، كان موقف يمتاز ببعد النظر، في رأي محمد حسين هيكل، إذ قال: "وكان من بعيدي النظر الذين قدروا ما يمكن أن يصيب البلاد من جرائها، فتنحي عن الاشتراك فيها كما تنحي بعد ذلك عن الاشتراك في النظام الذي أعقبها". وإن كانت الثورة العرابية تطور طبيعي في الحركة الوطنية المصرية، إلا أن ذلك أوقعها في براثن الاحتلال، وقد تحدث المؤرخ "محمد صبري" عن هذه الثورة ومقدماتها في كتابه "تاريخ مصر من محمد علي إلي العصر الحديث" فقد كان محمود باشا من أنصار عدم الاشتراك في الثورة، والمجال هنا ليس متسعا لئن نذكر تجارب الرجل في معترك السياسة، فكتب التاريخ مليئة بالتفاصيل[5] وإنما نركز الحديث عن بيان أنواره وبزوغ نجمه في سماء الوطن.
   فمع هذه المكانة الكبيرة التي كانت له، ومع ما أظهر من مقدرة في مجلس النواب الذي سبق الثورة، ومع أنه لم يكن من أنصار الثورة وأعوانها، فإنه لم يري بعد فشل الثورة واحتلال الإنجليز لمصر، حين استصدروا من الخديوي قانون مجلس الشورى والجمعية العمومية، فما كان منه إلا أن تنحي عن العمل العام وترك القاهرة إلي الصعيد، وعكف علي عمله الخاص وعلي البر بالفقراء.  وظل كذلك من سنة 1882 إلي سنة 1895 حين أخرجه ظرف محلي من هذه العزلة؛ وجعله يتقدم لعضوية مجلس الشورى، وما لبث أن عاد إلي القاهرة وإلي العمل العام حتى انتخب وكيلاً للمجلس وكانت له فيه مواقف مشهودة. وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلي مطالبة الإنجليز بأن يخلوا بين مصر ووضع نظام الحكم فيها، فلقد كان المغفور له محمود باشا في مقدمة هؤلاء، كان في مقدمتهم منذ كان عضواً في مجلس الشورى، وحين ترأس بعد ذلك حزب الأمة، وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلي الأحزاب المنظمة، فإن محمود سليمان هو أول من ترأس حزباً ذا برنامج ونظام في مصر، فلقد كانت الأحزاب المصرية إلي يوم تشكيل حزب الأمة تقوم علي فكرة الدعوة لعمل واحد معين، وكان هذا الحزب أول الأحزاب التي وضعت لها برنامجاً مفصلاً يتناول مرافق البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعاً، وعلي نهجه سلكت الأحزاب الأخرى بعد ذلك، ولقد تألف حزب الأمة علي هذه الصورة في أخريات عام 1907 وسبقته "الجريدة"، التي كانت بعد ذلك لسان حاله بشهور. وكان الكاتب الأول في "الجريدة" هو أستاذ الجيل "أحمد لطفي السيد"[6].
    فلما حدث بعد تشكيل الحزب بسنوات وقع الخلاف بين المسلمين والأقباط ، وكان من أثرها أن عقد الأخيرون مؤتمر أسيوط، يتهمون فيه حكومات ذلك العصر بأنها تُنئي الأقباط عن مناصب الحكم ولا تعطيهم حظهم الكامل منها، وكانت هذه الحركة خطيرة النتائج؛ وكان محمود باشا من الذين تقدموا للقضاء عليها ولإعادة الألفة بين العنصرين، ولذلك تألف المؤتمر المصري (بهليوبوليس) واختار رياض باشا رئيساً له ومحمود باشا سليمان وكيلاً له، وفند مزاعم الأقباط يومئذ وأظهر للناس علي أن لهم من مناصب الحكم أكثر من نسبتهم العددية بكثير، ودعاهم إلي أن يكونوا في وحدة الأمة صفاًّ.
    وجاءت الحرب الكبرى[7] وكان محمود باشا قد جاوز الثمانين، وحق له أن يستريح من عناء العمل وأن يخلص كل نفسه لله في انتظار لقائه إياه؛ والحق أن صفحات الجهاد التي كانت له في ماضيه وما قام به كأب من حسن العناية وجميل البر بأبنائه، كان كافياً وفوق الكفاية ليكتب لهذا الرجل صحيفة مجد باقية، علي مر التاريخ.
    وما أجمل هذه الشيخوخة الطاهرة المنزهة عن شوائب الهوى، والتي قامت فيما سبق لها من سني الحياة، بما يطلب إلي الرجل من جد وبر وتقوي، ما أجمل الشيخ يصل إلي قمة الحكمة بعد أن يطوف من الحياة بشهواتها وأهوائها ومطامعها ومجدها، فتدعوه الحكمة إلي أن ينظر إلي الأهواء والمطامع والشهوات جميعاً نظرة إصغار؛ ان كانت لا بقاء لها ولا متاع للنفس بها، وإنما المتاع بإمعان النظر في الكون واستكناه ما فيه من خير وحق وجمال.
   علي أن الأقدار كانت قد احتفظت لمصر بصفحة أخري من صفحات المجد يخطها محمود باشا سليمان، ليكن لشيخوخته عليه حق، ولتكن خير خاتمة المرء أياماً تُقضي في العبادة والتقوى، وليكن محمود سليمان قد خرج من الدنيا تاركاً إياها إلي أولاده وانقطع لنفسه ولربه – ليكن ذلك كله، فإن للوطن مع ذلك عليه حقاً، وهو لم ينس يوماً حق الوطن عليه، لذلك ما كادت الحرب العالمية تضع أوزارها، ثم ما كادت الحركة الوطنية المصرية تبدأ، حتى إذا خرج هذا الشيخ مرة أخري من عزلته وجاء ينضم إلي صفوف المجاهدين لإعلاء شأن الوطن ورفع منارة وتقديس كلمته، ولئن كان قد نيف علي الثمانين فلن تزيده سنة، ولن يزيده مجده ومقامه وعظمته، إلا حرصاً علي الوقوف في الصف الأول من صفوف المجاهدين، وأن يكون في مقدمة من يتعرض لما يصاب به من يتعرض للدفاع عن عظمة هذا الوطن واستقلاله[8].
   وكان منظراً يبهر النفس ما فيه من مهابة وإجلال، فقد جلس محمود باشا في رياسة الوفد المركزية، يوم كانت البلاد تضطرب أحشاؤها من أقصاها إلي أقصاها، ويوم كانت الأحكام العرفية بالغة في قسوتها أعظم مبلغ، جلس في رئاسة لجنة الوفد المركزية، وجعل من داره كعبة قُصّاد في خدمة الوطن وأقسم لا يتزحزح إلا أن تزحزحه القوة، فقد كان سبَّاقا كغيره إلي التضحية والمكانة العلية، وكان فيه مثلا عاليا من النزاهة والجهاد لخير الوطن.
   من هو محمود باشا سليمان؟
   هو بلا منازع؛ عميد الأسرة السليمانية بالصعيد، ووالد رئيس وزراء مصر الأسبق (محمد محمود باشا) وهو أحد أعلام ومشاهير رجال السياسية، ولنقترب أكثر لنعرف من هو هذا السياسي المحنك إن لم يكن المخضرم، إنه: محمود باشا سليمان بن عبد العال بن عثمان، وينتهي نسبه إلي  قبيلة بني سليم المشهورة في الحجاز، ولد عام 1841م في مركز ساحل سليم.
   ولما بلغ السابعة من عمره أحضر والده العلماء في المنزل، فأخذ عنهم النحو والحساب والعلوم العربية، ثم التحق بالأزهر الشريف، وفي سنة 1867عين ناظرا لقسم (أبو تيج) ثم رقي وكيلاً لمديرية جرجا ولمدرية أسيوط، وفي سنة 1907 ألف شركة من كبار أعيان القطر المصري لتأسيس جريدة سميت "الجريدة" وترأس محمود باشا حزب الأمة، وكان من المشتغلين بالحركة الوطنية من نشأتها، وكان رئيساً للجنة الوفد المركزية وقد انتخب عضواً في مجلس الشورى، ثم وكيلا لهذا المجلس، وقد أسس في بلدته مسجداً وفتح مدرسة صناعية في أبو تيج سميت باسمه، وأوقف عليها مساحة من الأرض.
   لقد زاره في بيته من حكام الأسرة المالكة "توفيق باشا" و"عباس باشا الثاني" و"السلطان حسين كامل" في رحلاتهم إلي الصعيد، وكان مُحسناً كريم الأخلاق، وقد أثمرت شجرة العائلة السليمانية عن العديد من الشخصيات، التي أثّرت في الحياة السياسية المصرية في العصر الحديث.
   ويقال أنه في أثناء الحرب العالمية الأولي، عرض علي محمود باشا سليمان حكم مصر فرفض! وكان هذا الموقف من المواقف التي يفتخر بها محمد محمود باشا رئيس وزرارء مصر الأسبق، خاصة أمام الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان، والذي كان دائماً يردد عبارة " أنا ابن من عرض عليه مُلك مصر فأبى"، ولكن هذه الرواية قد تكون مبالغة، إلي حد ما؛ خاصة إذا ما علمنا أن هناك كثير من أمراء العائلة المحمدية العلوية، الذين كانوا يسعون إلي دست الحكم.
   لقد اعتزل الميدان نهائياً؛ بعد رحلة شاقة خاض غمارها، وطنياً، جسوراً، غيوراً، مجاهداً، مثابراً، حريص علي وحدة صف الأمة المصرية، وكان من القلائل الذين حازوا إعجاب الناس بشتى طبقاتهم، بما فيهم أعداؤه؛ إن كان له أعداء من الأصل؛ لأن من طبيعة العمل السياسي أنه يولد الاحتكاكات واختلاف وجهات النظر، مما يدفع بقصيري النظر، لاتخاذ مواقف قد تكون عدوانية تجاه من يخالفونهم الرأي.
   وإن كان اعتزل الميدان بعد هذه الرحلة، إلا أنه لم ينس قديم صلاته بأصدقائه، سواء منهم من كان في فريقه السياسي أو كان في فريق مخاصم له، وعلي اشتداد الخصومة في وقت من الأوقات بين الأحرار الدستوريين و"سعد زغلول باشا"، فإن محمود سليمان كان أسبق من أرسل إلي سعد باشا أثر عودته من جبل طارق يهنئه بسلامة مقدمه، وكذلك كان في هذه كما في غيرها، عظيماً سامياً فوق شهوات الساعة .
   وأخيراً لقد ذهب هناك حيث المكان المنتظر للجميع دخوله وسكناه، وفي ضيافة الرحمن كان مثواه، حيث لا مشاحنات ولا مباغضات ولا أحزاب؛ فقد رحل محمود باشا عن هذا العالم بعدما أثري الحياة السياسية بما أفاضت عليه قريحته، وأجادت به نفسه، وأفل نجماً عظيماً من نجوم العمل السياسي الذين أنجبتهم أسيوط، ولم يكد عام 1929 يمضي إلا ورحل من هذا العالم، وقد نيف علي التسعين من العمر بعد رحلة صادقة مليئة بالحب والوفاء وقد رثاه حافظ إبراهيم[9]
والآن نردد سوياً قول الشاعر حين قال:
هوى كوكب الشرق المنير على الورى
ففاضت دموع الخلق كالنيل إذ جرى




[1] محمد حسين هيكل: تراجم مصرية وعربية، ط 1، دار المعارف، القاهرة، د ت، ص 174
[2]  ولد الشيخ حسن بن محمد العطار سنة 1766م بالقاهرة، وكان أبوه الشيخ "علي محمد العطار" فقيرا يعمل عطاراً، وهو من أصل مغربي وكان له إلمام بالعلم، وكان حسن يساعد والده في دكانه، وكان نبيها ذكيا ذهب للدراسة في الأزهر من وراء والده، حتى حفظ القران فما كان من الوالد إلا أن وافق في النهاية علي إكمال دراسته. انظر الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار. 
[3] هو: إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، ولد في 1830، وكان الابن الأوسط بين ثلاثة أبناء لإبراهيم باشا، بعد حصوله على التعليم في باريس عاد إلى مصر وأصبح وريثًا شرعيًا للعرش بعد وفاة أخيه الأكبر، وقام الخديوي سعيد باشا بإبعاده عن مصر ضمانًا لسلامته الشخصية، وذلك بإيفاده في مهمات عديدة أبرزها إلى الإمبراطور نابليون الثالث وسلطان تركيا، وامتدت مساحة مصر في عهد على طول ساحل البحر الأحمر وحار الحبشة ،وأنشئ مجلس شورى النواب،. أنظر، عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل، ج 1، مكتبة الأسرة 2001م. وأنظر كذلك عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ج 2، ط 4، دار المعارف 1982
[4] محمد حسين هيكل: مصدر سابق،  ص175، وانظر أيضا مضابط المجلس.
[5] محمد صبري: تاريخ مصر من محمد علي إلي العصر الحديث، ط2، مدبولي، القاهرة، 1996
[6] هو: أحمد لطفي السيد مفكر وفيلسوف مصري، وصف بأنه رائد من رواد حركة النهضة والتنوير في مصر. وصفه عباس العقاد "بأنه بحق أفلاطون الأدب العربي‏"، أطلق عليه لقب أستاذ الجيل وأبو الليبرالية المصرية.
[7] الحرب العالمية الأولى: هي حرب نشبت بين القوى الأوروبية خلال أعوام 1914 و1918. وبدأت الحرب، حينما أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على مملكة صربيا، في يوليو 1914 على إثر أزمة دبلوماسية نشبت بين البلدين، بسبب اغتيال ولي عهد النمسا الارشيدوق"فرانز فرديناند" مع وزوجته من قبل طالب صربي يدعى "غافر يلو بري نسيب" أثناء زيارتهما لسراييفو. وهناك العديد من الأسباب التي لا يتسع المجال لذكرها إنما نحن ننوه هنا عن بعض المصطلحات.
[8] محمد حسين هيكل: مصدر سابق،  ص177
[9] محي الدين الطعمي: الذهب المنقوط في تاريخ أعيان أسيوط, ط الاولي دار المعارف, القاهرة 2008م, ص70

الأربعاء، 5 يونيو 2013


الداعية الموهوب يقتحم القلوب
صاحب الدعوة الذهبية ومحي علوم الدين
إمام الدعاة المفسر المحبوب الأقرب للجمهور

بقلم الباحث/ مصطفي محمود علي

    تجمعت القلوب حوله، وأحاطته بمشاعر الحب والتقدير، فتراهم يرقبون ظهوره على شاشات التلفزيون، أو خلف أجهزة المذياع، ليستمعوا إلى تفسيره لآيات الذكر الحكيم، ويستمتعوا بما يجود الله به عليه من خواطر قرآنية, بأسلوب بديع, لا فيه تكلف النحاة ولا سجع الشعراء ولا عامية اللغة التي تدهورت بفعل العولمة, اندمج كل هذا في اسلوب واحد, لا نجد له تعريف في اللغة إلا إسلوب يسمى باسمه, إنه الشيخ  محمد متولي الشعراوي
الداعية الموهوب
   لم يكن الشيخ الشعراوي مجرد مفسر للقرآن الكريم فحسب، بل نشط أيضاً في مجال الدعوة إلى الله، وأبلى في هذا الجانب بلاًءً حسناً، وشد الِرّحال داعياً إلى الله على بصيرة، وكأنه يحاكى السلف الصالح في نشاطاتهم الدعوية إلى الله, من صبر وحزم, ولين وشدة, وهوادة ومثابرة, ولعلني أجدة آخذاً من بعض, من صفات عمر بن الخطاب رضي الله عنة- خليفة رسول الله الثاني- حينما دُعي لإلقاء كلمة في حفل تنصيب الرئيس حسنى مبارك وهو الرئيس المخلوع الآن منذ11فباير2011, وقال كلمته الشهيرة: "إذا كنا قدّرك أعانك الله علينا وإذا كنت قدرنا أعاننا الله عليك"
    قال هذا الداعية كلمة حق, تقال عند سلطان أو رئيس, في بداية حكمه, لا يخاف إلا الله, وقلما وجد مثل هؤلاء الرجال, وتمر الأيام والأعوام بل والعقود لنرى عجائب الله في الظالمين ولتقع أذننا على كلمات الشعراوي وكأنه يستشف الحجب, ويحاكى الفاروق عندما قال من المدينة: يا سارية الجبل الجبل...!
   كان رحمه الله خير داع للإسلام, ومن الصعب أن يصل داعية إلى هذا المنهج الذي يتبعه الشيخ في تبليغ دعوته..!, من السلاسة والوضوح في المعاني العميقة لكلمات القرآن, حتى يفهما العامي الذي لم يقرأ أو يكتب, بمجرد جلسة واحدة أمام هذا الداعية المٌجدد, أو حتى بمجرد سماعة في وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها, ورغم هذا كله لا يعترف بأنة يفسر القران وإنما قال: "هذه خواطري، وحصيلة جهادي الاجتهادي، شرفي فيه أني عشت كتاب الله، وتضامنت لاستقبال فيض الله..."
سفير للإسلام في كل مكان وطأته قدماه, ومن الدول التي قصدها الشيخ داعياً إلى الله علي بصيرة، العديد من الدول الأوربية، وأمريكا، واليابان، وتركيا، وأغلب الدول الإسلامية، حيث دعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبلّغ رسالة الإسلام خير بلاغ، واستمر على ذلك حتى أتاه الله اليقين. فكان بحق من خير الدعاة إلى الله في هذا العصر .
    ويقول عنة المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ محمد عبد الشافي القوصي :"انه من أعظم الدعاة ومهما نتكلم عنة لا نوافيه حقه فأسلوبه البسيط البليغ في التفسير والدعوة جعله يصل إلى اقل المستويات العلمية في تفسير أعظم معاني الكلمات."
أما الدكتور محمد عمارة فيقول ": الشعراوي قدَّم لدينه ولأمته الإسلامية والإنسانية كلها أعمالاً طيبة، تجعله قدوة لغيره في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة" .
ناهيك عن المستشرقين الذين يشيدون بروعة أسلوبه وأدائه وقربه من العوام بل والناس علي اختلاف مستوياتهم.
المفسر الموهوب
   انخرط الشيخ الشعراوي في محاولة لتفسير القرآن، وأوقف حياته على هذه المهمة؛ ولأنه ضليع في اللغة العربية كان اقتراب اللغوي من التفسير آية من آيات الله .فأول مزية للشيخ الشعراوي نلمحها في منهجه التفسيري، أن تفسير القرآن على لسانه يبدو جديداً فريداً . أما المزية الثانية، فهي أن الشيخ - رحمه الله - رُزق موهبة نقل الأفكار بأبسط الكلمات، وأرشق الأساليب، وقلما اجتمع هذا لأحد ممن توجهوا لتفسير القرآن مباشرة .
   وقد أحس كل من تابع تفسير الشيخ للقرآن الكريم عبر وسائل الأعلام، أو في المجالس المخصصة لذلك، بأن الله يفتح عليه وهو يتحدث، ويلهمه معاني وأفكاراً جديدة.  فكان تفسير الشيخ الشعراوي للقرآن جديداً ومعاصراً، يفهمه العوام، ويلبي حاجات الخواص، وكانت موهبته في الشرح لآيات القرآن، وبيان معانيه قادرة على نقل أعمق الأفكار، بأسلوب سلس مُشوق جذاب، يكاد يأخذ بلباب العقول، ويدخل القلوب بغير استئذان، وإني لأقسم بالله غير حانث كم من ناس ينتظرون أن يأتي برنامج الشيخ الشعراوي في وسائل الإعلام المختلفة حتي إذا جاء صمت الجميع يسمعون ما يُريح قلوبهم ويطرب أسماعهم.
   وقد وصف الشيخ الشعراوي جهده الذي بذله في تفسير القرآن بأنه "فضل جود، لا بذل جهود" ومما قاله بهذا الصدد " :فهذا حصاد عمري العلمي، وحصيلة جهادي الاجتهادي، شرفي فيه أني عشت كتاب الله، وتضامنت لاستقبال فيض الله، ولعلي أكون قد وفيت حق إيماني، وأديت واجب عرفاني، وأسأل الله سبحانه أن تكون خواطري مفتاح خواطر من يأتي بعدي" .
   والملفت للانتباه؛ أن الشيخ الشعراوي لم يعتبر جهده الذي بذله في توضيح وبيان آيات القرآن الكريم تفسيراً له، بل - بحسب رأي الشعراوي نفسه - جملة خواطر ليس إلا، يقول في بيان هذا المعنى: "خواطري حول القرآن لا تعني تفسيراً للقرآن، وإنما هي هبات صفائية، تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات، ولو كان القرآن من الممكن أن يفسر لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره.لأنه عليه نزل وبه انفعل وله بلغ وبه عَلّمْ وعمل. وله ظهرت معجزاته. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بأن يبين للناس على قدر حاجتهم من العبادة التي تبين لهم أحكام التكليف في القرآن الكريم، وهي " افعل ولا تفعل"
   وشيء آخر يستوقف المُتابع لتفسير الشيخ الشعراوي وهو تعريفه للقرآن الكريم، حيث إن للشيخ تعريفاً للقرآن، يغاير بعض الشيء التعريف المشهور للعلماء، فهو يعرف القرآن بأنه: "ابتداء من قوله تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم", إلى أن نصل إلى قوله "من الجنة والناس" على أن نستعين بالله من الشيطان الرجيم، قبل أن نقرأ أي آية من القرآن.
وعلى الجملة، فقد وُفِّق الشيخ الشعراوي في تعامله مع النص القرآني شرحاً وتبياناً ما لم يوفق الكثير إليه، ونفع الله به خلقاً كثيراً .  
واعتمد في تفسيره على عدة عناصر من أهمها:
-اللغة كمنطلق لفهم النص القرآني
-محاولة الكشف عن فصاحة القرآن وسر نظمه
-الإصلاح الاجتماعي
-رد شبهات المستشرقين
-يذكر أحيانا تجاربه الشخصية من واقع الحياة
-المزاوجة بين العمق والبساطة وذلك من خلال اللهجة المصرية الدارجة
-ضرب المثل وحسن تصويره
-الاستطراد الموضوعي
-النفس الصوفي

هذا ما كان لايعدوا سطوراً قليلة في بحر الإمام الزاخر بالعلم، وإنا لننتظر مئات السنين حتي يأتي إلينا القدر برجل في علم وخلق وفكر الإمام الكبير محمد متولي الشعراوي رحمه الله.