الثلاثاء، 14 مايو 2013


حرية البحث العلمي في الإسلام
بقلم الباحث/ مصطف محمود علي
      في الوسع القول بأن المسلمين عامة كانوا أكثر حرية في دراسة المسائل العلمية ومناقشتها، حتى لو تعارضت مع مذهب أو رأي ديني، وأن الباحث المسلم كان أكثر حرية من الباحث الأوربي، في الإتيان بالنظريات العلمية.
   وأما الفترات العصبية التي مرت بالتاريخ الإسلامي في أيام بعض الخلفاء العباسيين، والتي حُجر فيها على البحث في بعض الموضوعات الفلسفية أو المذهبية، كالبحث مثلاً في موضوع خلق القرآن، وهل هو قديم أم حديث، فقد كانت دواعيها هي خوف الخليفة من أن يفقد احترام الناس له ولمنزلته الكبيرة، وبالتالي نفوذه وسلطانه.
    وتكمن أسباب الجمود والتأخر وما يسمى بظلمة القرون الوسطى في أوربا في انعدام حرية الرأي والبحث، بينما تقدمت الحركة العلمية وتوسعت في العالم الإسلامي في هذه الفترة، فقد كان محظوراً على الباحث أو العالم الأوربي أن يدلي بأي رأي أو نظرية فى ظل وجود الكنائس المسيحية المسيطرة علي الفكر آنذاك، وكانت العقوبة شديدة لمن تسوّل له نفسه معارضة الآراء الدينية النصرانية، في حين أن الحرية في البحث وفي العكوف على نفس العلوم والنظريات العلمية، وقبولها أو مناقشتها أو ردها، كانت سائدة في المجتمع الإسلامي في القرون الوسطى، وما بعدها إلي الآن.
   ومع أن إشعاعا من العلوم والفنون الشرقية كان يصل إلى الغرب، إلا أن الجو الحاكم المهيمن على ذلك المجتمع كان غارقاً في ظلام حالك، ولم تتمكن علوم الشرق وثقافته من النفاذ إلى الوسط العلمي هناك، اللهم إلا بالنسبة لبعض فروعها كالطب والصيدلة.
    فقد انتقلت إلى الغرب أرجوزة ابن سينا في الطب، ووضعت لها ترجمة باللاتينية، وقل من لم يحفظ أو يقرأ الترجمة اللاتينية بهذا المرجع بين أطباء الغرب في تلك الفترة، أما علوم الهيئة والنجوم فلم يكن يسمح بنقلها إلى الغرب[1].
   واستمر تقدم العرب المسلمين في البحث بحرية في كل المسائل الدنيوية والعقائدية، ولم تكن هناك معوقات لذا رائينا، أن هناك علماء موسوعيين يبحثون في شتي المجالات دون عائق. ومن ثم سارت حرية البحث إلي الأمام إلي أن ظهر الاستعمار الغربي وبدأ يدب المرض في أوصال الأمة، والسعي حثيثا علي عدم تقدمها وتقييد حريتها، في شي المجالات التي منها البحث العلمي، الذي هو عصب التقدم في مكان.

الخميس، 9 مايو 2013

الشيخ إسماعيل صادق العدوى

إسماعيل صادق العدوى
بقلم الباحث/ مصطفي محمود علي
   لا جَرَمَ أنَّ (العقَّـاد) أعظم من أمسك بالقلم في القرن العشرين! بلْ كان قلمه أقوى سلاحٍ نافح عن الإسلام بالحجة والبرهان –كما يقول الشيخ الغزالـي! وكان –أيضاً- أقوى سلاحٍ استعان به سعد زغلول لمناصرته، فوصفه –زعيم الأمة- بأنه (كاتب جبار المنطق)!
   ولم يكن أحد من مشايخ الأزهر يخرج عن هذه الصورة، أو قريب منها، فهم بالفطرة مطبوعون علي الدماثة والخلق القويم، ومجبولون علي إصلاح المجتمعات الفاسدة التي تعج بالمتغيرات في آن واحد، لم يكن أحد من مشايخ الأزهر في هذا الصرح العملاق إلا وكان رجلاُ صالحاً عالماً مجاهداً تطوله يد السياسة أحيانا،ً فيشترك بما تقتضي إليه الحاجة، وإن المواقف تتغير بتغير الأزمان ولكن يبقي المنهج واحدا، وإنك لتلاحظ كم كان هؤلاء –المشايخ- تضُفي عليهم هالات الأنوار وكأنهم ملوك وما هم كذلك، بل تتهافت الأيدي لتمسح علي أثوابهم النقية، وتتعالي الأصوات رمياً بكل كلمة تنشرح لها القلوب طربا مادحين بها مشايخ الأزهر الذين حملوا أمانتها، بل هم أعلام الأمة جمعاء.
   ولم يكن الشيخ "إسماعيل" إلا نموذجا يندر وجوده في هذا الزمان؛ الذي بخل علي الأمة أن يمدها بالمُجددين الناصحين الذين يأخذون بالنواصي والأقدام، حقاً إنه عظيم المكانة رفيع المنزلة جليل القدر، متواضعاً كرسول الله (صلي الله عليه وسلم)، عفيفاً حيياً كعثمان بن عفان، جسوراً في الحق كعمر الفاروق، عالماً تقياً كعلي بن أبي طالب، زاهداً متأسيا كأبى بكر، هو في النهاية رجل ترك الدنيا فأتته راغمة وتأسي بالصحابة فكأنك تشاهده صحابياً مع أن عصر الصحابة قد ولي وراح.
   وإننا حين نكتب عن هذا الرجل (العبقري) فإننا نحاول أن نمسك بأحد خيوط ملامحه التي أسبغت علي المجتمع الخير والإصلاح بكل أنواعه، فالإمام "العدوي" هو شيخ الجامع الأزهر المعروف والذي طبقت شهرته الآفاق، وهو الإمام العارف الكبير المتبحر في شتي فنون العلم، ومختلف زوايا الفقه، أحد أعلام أسيوط بل هو واحد من أعلام الشرق الأوسط، إن لم يكن فهو عالم طبقت شهرته الآفاق.
*    *    *
   قال تلميذه "محمد هاشم العشيري" في مقدمة كتابه (من كنوز العلم النافع) الذي جمعه في حقه -رضي الله عنه- فقال: "فهو من أئمة دعاة الحق بمنهج الحقيقة والشريعة لا يخشي في الله لومه لائم فهو لا يعنيه نفسه، ولا الدنيا ولا التفاف الناس حوله بقدر (حب الله وملازمة ذكره تعالي وإتباع سنة المصطفي عليه الصلاة والسلام) فالعدوى -رضي الله عنه- من قمم العلماء الأجلاء ومن أئمة الأقطاب الأوتاد، حيث منَّ الله عليه بالولاية الكبرى، ذروة العلم ومقام القرب والتصرف والتمكين والكشف، والتي لا ينالها إلا من اتصف بالعبودية الخالصة لله تعالي بعد فنائه عن نفسه وقيامه بالحق، فتولاه مولاه وأفاض عليه من أنوار ذاته، وأسرار أسمائه وصفاته، مع عز  شهود  التوحيد الإلهي والنهل من جميع فيض العلم أللدني الرباني، وأنس المعية والكشف النوراني، رضي الله عنه وأرضاه، وجميع أولياء الله الصالحين".
من هو إسماعيل صادق ألعدوي؟
   هو الشيخ إسماعيل بن صادق العدوى بن حسوب، وكان والده الشيخ (صادق) قطباً من أقطاب الصوفية، صاحب حال كبير وكرامات شديدة، وينتهي نسبه من أمه وأبيه إلي قبيلة بني عدى، ومن ثم إلي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد في بني عدي التابعة لمركز منفلوط، في السادس من أغسطس عام 1934م، وعاش وتربي بالقاهرة، بحي الباطنية بجوار الأزهر الشريف.
   لقد عني به والده عناية فائقة مما دفعه في سن مبكرة للدراسة والتعليم، فحفظ القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، حتى وصل إلي المرحلة الثانوية الأزهرية بمعهد القاهرة الديني، ثم بالأزهر الشريف بكلية الشريعة، حتى حصل علي (العالمية) عام 1964 في أصول الدين والشريعة والفتوى، وبعد تخرجه بفترة وجيزة تم تعيينه إماماً لمسجد سيدي "أحمد الدردير" وكان أول عمله هو الدعوة؛ وفي هذه الأثناء رأي رؤيا منامية (أن والده الشيخ صادق أمسكه بيده إلي أن أدخله إلي حضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وسأله "رسول الله"  في كم موضع ذكرت مصر في القرآن فأجاب الشيخ إسماعيل، بالآيات القرآنية التي ذكرت فيها مصر كلها، فقال له رسول الله بما معناه (فتح الله عليك) وبارك الله فيك)[1].
   لقد صدق من قال إن التقوى هي أعظم لباس؛ ومن يرتدي ذاك اللباس فهو خليق لأن يكون من الأتقياء، فكان رضي الله عنه يخفي حقيقة مقامه وسر أنواره، بعباءة العلم والشريعة ورداء البساطة وخفة الظل، وأثناء تعليمه بالأزهر دفعه والده إلي "الشيخ عبد اللطيف القتوري" وكان صاحب أحوال باهرة وكشوفات ربانية خارقة، فاستلمه هذا الشيخ، وعلي الفور شرب إسماعيل العدوي حال شيخه وورث مقامه، وفاق عليه، رضوان الله عليهم جميعاً
حياته وآثاره:
   لم يكن إماماً لمسجد سيدي أحمد الدردير، ثم إماماً بــــ(الإمارات العربية) ثم انتدب مديراً للدعوة والإرشاد بأبي ظبي فحسب؛ بل لا يخشي في الحق لومة لائم، وكان دائم العطاء والجهد فكان إسلاماً متحركاً بنور وهدي القرآن الكريم والسنة المطهرة، داعياً إلي حب الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم. فلم يدخر وسعاً ولا جهداً في سبيل الدعوة، بل كانت حياته مثالاً للجهاد والعطاء المتواصل، حتى أنه كان يقسم أيام الأسبوع في طاعة الله؛ وكأنه يحاكي "هارون الرشيد"[2] خليفة المسلمين العباسي.
   فيوم الجمعة يستيقظ مبكراً ليعد خطبة الجمعة التي يلقيها في الجامع الأزهر ... ويوم السبت يتوجه بعد المغرب إلي مسجد مصطفي محمود لإلقاء درس في العقيدة، ذلك العلم الذي يصعب علي الكثير من العلماء شرحه للناس. وفي يوم  الاثنين يلقي درسه في الجامع الأزهر بعد المغرب، يشرح فيه صحيح الإمام مسلم، ثم في أيام أخري يقوم بشرح الموطأ في مسجد سيدي أحمد الدردير بعد  صلاة المغرب، وبعد العشاء يقوم بعمل مقرأة للقرآن، وكان يخصص يوم الثلاثاء لدرس النساء بمسجد السيدة فاطمة النبوية، وفي يوم الأربعاء يتوجه إلي الجامع الأزهر بعد المغرب ليلقي درس التفسير، ويوم الخميس كان يخصصه لتحضير خطبة الجمعة مع واسع علمه وعلو شأنه، وكان يوصي أبناءه من الأئمة والخطباء، بالاهتمام بالتحضير للخطب والدروس.
  عندما ترك حي الباطنية[3] الذي يعج بالناس؛ وهم مابين صالح وطالح وانتقل إلي مدينة نص،ر تبرع ببيته وجعله معهداً أزهرياً وسماه معهد سيدي أحمد الدر دير.
  لقد شارك الشيخ في العديد من البرامج بالتليفزيون التي يحرص المجتمع الإسلامي علي مشاهدتها، لثرائها ووضوح أسلوبها مثل برنامج حديث الروح، و أسماء الله الحسني، إضافة إلي بعض اللقاءات الدينية في مصر والعالم الشرقي والغربي.
   أما عن نشاطه بالإذاعة فقد قام بكثير من التسجيلات لإذاعة القرآن الكريم شرح فيها مناسك الحج، وغيرها من الموضوعات الإسلامية هذا في مصر، أما في بقية العالم الإسلامي فقد قام رضي الله عنه بشرح كتاب الشمائل المحمدية في إذاعة الإمارات العربية، ومنها إلي كل دول العالم الإسلامي. وإنك حين تستمع إلي صوت الإمام تشعر بحالة من الخشية تنتابك، حينما تتشابك الأرواح وتتعانق الأفئدة في حب الله ورسوله.
   كان له وجود في معظم المؤتمرات الإسلامية في جميع أنحاء العالم، في مصر والسعودية وأمريكا وغيرها من دول المعمورة. وإن كان ( لفظ ) سفير لا يطلق إلا علي من يتقلد هذا المنصب، فكم من سفير من علمائنا الذين حملوا راية الإسلام إلي العالم فصاروا بذلك سفراء وإن لم يكونوا سفراء!
*    *    *
   لقد كان يجوب في رمضان من كل عام، معظم دول العالم يشرح الإسلام للجاليات الإسلامية المحرومة من ذلك النبع الصافي، فكان من الأركان الأساسية التي تجوب صعيد مصر إما لإطفاء نر الفتنة الدينية، أو إذكاء روح الحب في الإسلام بدلاً من التعصب والتطرف، ومع كل هذا العبء وتلك الرسالة الضخمة المستمرة، كان دائم السفر للعمرة والحج كل عام يلقي الدروس ويفتي علي المذاهب الأربعة للحجاج والمعتمرين، مؤدياً مناسك الحج قائلاً: " إني أستحي أن أذهب إلي عرفات أو أن أفيض منها راكباً" محققاً العبودية لله تعالي في سلوكه ونسكه وعباداته ومعاملاته، فضلاً عن خروجه في شهر رمضان المبارك للدول العربية، وبالأخص إلي الإمارات بدعوة حاكمها والمغرب بدعوة من ملكها، ولكن لايمنعه ذلك من الخلوة في العشر الأواخر من كل شهر رمضان المبارك في رحاب الكعبة المشرفة مع قيامه بالسفر إلي أمريكا وأوربا وأفريقيا وآسيا لإلقاء المحاضرات وتوصيل مفهوم الإسلام، لأنه كان الرئيس لرابطة أئمة العالم الإسلامي، كل ذلك فضلاً عن تأسيه برسول الله وكل المجاهدين في حق الوطن والدين والمواطنين.
   كان مجاهداً بعلمه بقلمه ولسانه فعلي سبيل المثال: سافر كثيراً إلي جبهة القتال بصفة شبه مستمرة، بين جنود القوات المسلحة البواسل، علي خط النار في القناة في عام 1973، ثم بعد ذلك في سيناء يذكرهم بفضائل الجهاد ويحرضهم إما علي النصر أو الشهادة، حتى كتب الله تعالي النصر لجنودنا وكان يقول: "إذا جاء الجهاد فهو أولي من الكلام" فجهاده دائماً متواصل مستمر بين القرى والنجوع والمساجد حتى ساحات القتال.
   وفي كل ما سبق لم ينظر إلي دنيا أو مظهر أو منصب، فلم يكن في قلبه سوى الله ورسوله وكان زاهداً في الدنياً مردداً في كل مناسبة: "إننا تراب نعيش فوق تراب" فكان في كل ذلك، صافي السرية حاضر القلب صاحب وقار وجلال وهيبة بسيطاً، ومتحيزاً للفقراء والمساكين لدرجة أن زملاؤه كانوا يسمونه (بقطب الفقراء) وكان عند زيارته للأثرياء والأغنياء، يأخذهم بلطف بقصد جمعهم علي خالقهم ورازقهم وترقيق قلوبهم لحب الخير والصدقة للفقراء، وكان صاحب دعوة مستجابة محققة عرفها كل من خالطه وطلب الدعوات منه.
مذهبه وطريقته وكراماته:
   كان رضي الله عنه مالكي المذهب، وكان يفتي علي المذاهب الأربعة بعلم وبصيرة وكان خلوتي الطريقة[4] عن والده الشيخ صادق ألعدوي وعن شيخه الشيخ عبد اللطيف .
   بل كان شديد الكشف الرباني، بما لا يتسع المجال لذكره هنا، فكل من عرفه يحفظ العديد من الكرامات والخوارق المدهشة المذهلة، ويكفي أن نشير إلى أن كثيراً من زعماء الدول الإسلامية والعربية كان موضع تقدير عندهم. لأنه ما حدثهم في أمر إلا تحقق بإذن الله وكان يقول: "ليست الكرامات سحراً بل لابد من أن يكون لها غاية وهدف فهي بالدين وللدين  فهي بالله ومن الله وفي الله وإلي الله تعالي"، ولأن كراماته كثيرة فنكتفي هنا بذكرها كعنوان فقط دون تفصيل لأن هدفنا هو العلم بهذا الشيخ الفاضل الذي ذاع صيته من أقاصي المعمورة إلي أقاصيها. رحمه الله.
في رحاب الله الرحمن:
   لم يمكث في بيته وأسرته إلا فترة مرضه الأخير، وكان راضياً بما كتبه الله علية من ابتلاء مدة  عامين تقريباً، وهذا شأن عباد الله الصالحين إلي أن وافته المنية مغرب الأربعاء 23 رمضان عام 1418هـ الموافق يناير1998 وصلي عليه في الأزهر، ودفن في بستان العلماء بالدراسة أنعم الله عليه مع النبيين والشهداء والصالحين.
   وقد قال أيوب السختياني رحمه الله: "إنه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما سقط عضو من أعضائي[5]"، فإن فقد هؤلاء العلماء فجوة عظمى ورزية كبرى، ورحم الله الحسن البصري حين قال: "موت العالم ثُلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما طرد الليل والنهار [6]"

وصدق الشاعر حين قال:
ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ
لعمرك ما الرزية فقْد مالٍ
يموت بموته علمٌ كثيـرُ
ولكن الــرزية فقد حبْر


[1] انظر مقدمة كتاب: كنوز العلم النافع لمحمد هاشم العشيري.
[2] هو: هارون الرشيد بن محمد المهدي وهو الخليفة العباسي الخامس، يعتبر من أشهر الخلفاء العباسيين. حكم بين عامي 786 – 809م، وهو أكثر الخلفاء العباسيين ذكرا في المصادر سواء العربية أو الأجنبية التي أفاضت الكلام عنه حيث صور بالخليفة الورع المتدين الذي تسيل عبراته عند سماع الموعظة والمجاهد الذي أمضى معظم حياته بين حج وغزو, فكان يحج عاما ويغزو عاما, وكان يغزوا عاما ويحج عاما, وقد قال ابن خلكان أن الرشيد قد حجّ تسع مرّات، وكان يصلي في اليوم مائة ركعة، وكان حريصا علي التعرف علي أحوال الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم, بل كان أحيانا يطوف بنفسه متنكرا في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها، ويعتبر عصره العصر الإسلامي الذهبي.
[3] كلمة الباطنية هي في الأساس فرقة خرجت علي الإسلام، واختلف الباحثون في تحديد زمن ظهور مذهب الباطنية وهو خلاف مبرر، إذ من أصول مذهبهم عدم نشر عقائدهم وأفكارهم، فهم يأخذون العهود والمواثيق على من يدخل في مذهبهم ألا يظهر شيئا منها، ويعدون ذلك من أصول دينهم وأركانه التي لا يجوز الإخلال بها، ويرى الإمام السيوطي أن أول ظهور للباطنية كان في سنة اثنتين وتسعين للهجرة، وذهب البعض إلى أن ظهورهم كان سنة 205هـ وقال آخرون سنة 250 ، ويرى البعض أن ظهور مذهب الباطنية كان سنة 276هـ حينما قام زعيمهم ميمون القداح بإنشاء هذا المذهب. يقول البغدادي في الفرق بين الفرق: : " اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل وأعظم من الدهرية."
[4] والطريقة الخلوتية هي: من الطرق الصوفية الجامعة لمحاسن جميع الطرق كلها والتي تعتمد علي خلوة القلب والذكر الدائم والعمل الصالح الخفي وقد شرب من رضوان الله عليه من النهر المحمدي علي يد كثير من أكابر أقطاب هذا العصر وكانوا جميعاً يضعوه في موضع التقدير والاهتمام البالغ مع صغر سنه بالنسبة لهم ما أثار اندهاش وتعج المحيطين بهؤلاء الأقطاب الكبار، ونخص منهم الإمام القطب أحمد رضوان ا والإمام القطب صالح الجعفري رضوان الله عليهم أجمعين.
[5] رواه أبو نعيم في الحلية 3/9.
[6] رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/595

الأربعاء، 1 مايو 2013

سيد جلال (شيخ البرلمانيين)


سيد جلال (شيخ البرلمانيين)
بقلم الباحث/ مصطفي محمود علي
باحث في التاريخ الحديث والمعاصر جامعة القاهرة

لم تكن شهرته التي عمت أرجاء المحروسة، لكثرة بسبب ما تبرع به من أموال للمستشفيات والمعاهد والملاجئ والمساجد والمدارس وغيرها، من أفعال الخير التي تعد من محاسن الأعمال ومفاخر أهل الإسلام، ولم ترجع هذه الشهرة لأنه ظل 40 عاما في البرلمان، حتى لقب بــ"شيخ البرلمانين"، واشتهر بذلك لمِا قدمه من أعمال عظيمة في خدمة البلد، إنما ترجع هذه الشهرة لأنه كان صادقاً مع نفسه محباُ لوطنه، وقديماً قالوا: "حب الوطن من الغني" ولا تنتظر أن تُعطيك بلدك شيئاً فلا بد أن تعطيها أنت و"متقولش إيه آدتنا مصر، قول هندي إيه لمصر".
نشأة سيد جلال:
   ولد عام 1899م  في بني عدي - مركز منفلوط, وكان والده يعمل في حراسة الحقول، وكان مشهور بالأمانة والإخلاص والشجاعة والكرم[1]، وبالرغم من فقره الشديد والقحط الذي كان يعيش فيه؛ ومن عجائب هذا الزمان أن ينزل مجموعة من الضيوف علي والد سيد جلال الرجل، فما كان منه إلا أن ذبح نعجته الوحيدة؛ التي كان ُيفاخر بها بين أهلة وجيرانه؛ ولم يجد الخبز فاستلف من جاره "الشيخ عبد السلام"، ثمن الخبز وأدي واجب الضيافة معهم علي ما هو مطلوب.  ولم ينسي "علي باشا مبارك" عندما كتب خططه أن يمدح (بني عدى) ذات المواقف المشهودة في التاريخ، فقد ذكرهم بما يدل علي الثناء الجميل وطول الباع في العلم والخلق.
    تر ك سيد جلال بني عدي في أواخر العقد الثاني من عمره بعد وفاة والده، وبعد أن تعلم مبادئ القراءة والكتابة، فسارت به القافلة إلي بور سعيد، والإسكندرية، والقاهرة، وتقلب في عدة أعمال حرة وتعرف علي أحوال الناس وذاق مُر العيش وحلاوته؛ ثم جمع من أعماله ثروة كبيرة وأصبح من كبار الأثرياء بمصر، وهو رجل عصامي[2] فعال للخير والبر والإحسان، وطار صيته في مصر لكثرة ما تبرع به من أموال، فهو صورة فريدة لشخصية يعتز بها كل عدوي.
*   *   *
يقول عبد الفتاح الديب[3] عن سيد جلال ما نصه: "في تاريخ المجلس التشريعي شخصيات برلمانية لا تنسي، سواء بالنسبة لمواقفها أو لتاريخها أو لسماتها، وهي نعمة من الله يعطيها لمن يشاء، ويكتب معها القبول لدي الناس، ومن هؤلاء الرواد التاريخيين نائب ظل نائباً طوال عمره، وترك بصمة لا تُمحي في سجل المجلس التشريعي، وهو النائب سيد جلال نائب باب الشعرية، الذي كان يجلس أمام لجنة الانتخابات لمجلس الأمة، خالعاً طربوشه وهو يضعه علي ركبتيه، وكان الناخبون يخرجون بعد أن أدلوا بأصواتهم ويضع كل ناخب قرشاً أو نصف قرش، وهو يجلس مبتسماً واثقاً محاطاً بالحب والإعزاز في وقت كانت فيه أصوات الناخبين ٌتشترى، وكان الجنيه يقطع نصفين يأخذ الناخب نصف الورقة المالية، ويحتفظ المرشح أو وكيله بالنصف الآخر، ليسترده الناخب بعد أن يقوم بالواجب لصالح المرشح الذي دفع".
   صورة نادرة لم تحدث من قبل؛ أن يخرج عامل كان يحمل الزلط علي كتفيه وذاق قسوة الحياة، يخرج من صفوف العمال الكادحين ليصبح مليونيرا، وليدخل المجلس النيابي، من أوسع أبوابه غير مستند إلي حزب أو قوة تدفعه إلي البرلمان.
   هكذا كان سيد جلال تحت القبة فارساً، من نوع نادر محتفظاً بلهجته الصعيدية، وكان فخوراً بها تحدث في أعقد القضايا وأدقها، وتكلم في القضايا الاقتصادية وكان يعبر عن رأيه بالألفاظ العامية البدائية، التي فيها بساطة وروح العدوية –لهجة بني عدى- فإذا بأساتذة الاقتصاد يصفقون له، وكان يحكي تحت القبة تجربته الشخصية في الحياة والدروس المستفادة منها، كأعظم أديب شعبي، بأسلوبه السهل السلس فيغزل من الفلكلور موسوعة علمية؛ وأن زملاؤه النواب جميعاً كانوا يحترمونه جداً ويقدرون آراءه.[4]
*   *   *
هل يتكرر نموذج "سيد جلال" في البرلمان الجديد ..؟
   "لو رشح الحزب حجرا .. لانتخبناه" .. عبارة شاعت عند كل انتخابات برلمانية قبل ثورة يوليو 1952م، والمعني فيها لا تخطئه عين، بغض النظر عن الحزب المقصود هنا أو درجة شعبيته، فلم يكن اسم المرشح - وقتها - مهما لدي الناخبين بقدر ما يعنيهم الحزب الذي سيقف وراءه، والبرنامج الذي يسعي لتحقيقه، ومن ثم فلم يكن هناك مجال لظهور "أمراض انتخابية" كالتي تشيع بيننا الآن، من شراء الأصوات بالمال، والرشاوى الانتخابية، إلي الخداع بالشعارات المُضللة، إضافة إلي البلطجة، وتغليب العصبيات وغيرها، ولم يعد كثير من المرشحين يُعرَفون اليوم بأحزابهم .. بل صار لسان حال بعضهم أو أغلبهم يقول: " لو رشح الحزب - أي حزب - غيرنا لخلعنا رداءه وتخلينا عنه، وناصرنا عليه خصومه ومعارضيه .." 
   الالتزام الحزبي، هو الإطار الحاكم لعلاقة المواطن بأي حزب ينتمي إليه، في كل دول العالم، وهو القاعدة التي يرتكز عليها احترام المبادئ والأهداف الحزبية، فإذا تجرد العضو من التزامه الحزبي فمن الطبيعي، أن تحوم الشبهات حول حقيقة دوافعه ونواياه، وبواعث انضمامه لهذا الحزب أو ذاك، وأسباب سعيه إلي كسب عضوية البرلمان من خلاله، فالحزب هنا وسيلة لنيل الحصانة، والحصانة هنا ستار لما خفي من الأغراض.
   وإذا كنا نشكو اليوم كثرة المرشحين للبرلمان، بما يخلق صعوبة في المفاضلة والاختيار الدقيق، ويشتت أذهان الجماهير ويفتت أصواتهم .. وهو ما يجعلنا نترحم علي الماضي البرلماني الجميل، ذلك الذي شهد نوَّابا حقيقيين؛ خرجوا من صفوف الكادحين؛ وحملهم الناس علي أكتافهم إلي المجلس "الموقر"، لإيمانهم بمصداقيتهم ونبل مقاصدهم .. فعضويتهم بالبرلمان لم تكن لعلة أو غرض في أنفسهم، بل كانت خالصة لوجه الشعب، وليست مجرد وسيلة لحصد المغانم واستغلال الفرص والمكاسب. 
   ولعل شخصية سيد جلال تفرض نفسها بقوة في كل الآونة، ولو عدنا إلي (الزمن الجميل) كما يسمونه، لتذكرنا ذلك النائب البرلماني الشعبي الأصيل والاقتصادي البارع .. الذي لم يكن يبحث حين ترشح للبرلمان عن حصانة أو وجاهة، بل كان صوتا مُخلصا للشعب، وقامة برلمانية عالية، وشعلة من النشاط ونائبا عن الأمة كلها، فلم يجد خصومه قبل أنصاره بدا من احترام آرائه واجتهاداته وتوجهاته وعطائه وتفانيه في خدمة الناس جميعا. 
  وحين نُقلب صفحات هذا البرلماني القدير، حين خاض أولي دوراته البرلمانية بين عامي 1945 حتى 1950م، نجده قدم مشروعات قوانين تنم عن وعي وحس سياسي واجتماعي عميق، وانتماء شعبي فريد، وعقل فذ سبق زمانه ورأي الحاضر بعيون المستقبل؛ وكأنه موجود بيننا الآن .. وعلي النقيض من ذلك تماما، نجد كثيرا من نواب اليوم مُهتمين بالجري وراء تأشيرات الوزراء، أكثر من اهتمامهم بالدور الحقيقي للنائب في الرقابة والتشريع .. حتى صار الناخب هو الآخر ميالا بطبعه لانتخاب "نائب الخدمات"، أكثر من تفضيله للنائب السياسي والتشريعي الفاهم لطبيعة مهمته ..! و-أعتقد- أن تلك ظاهرة لابد أن تتغير أولا بتوعية الشباب بأهمية العمل السياسي، وضرورة ممارسة السياسة، من خلال الانتساب للأحزاب، كتطور طبيعي لما نشهده اليوم من حراك سياسي. 
   ولا ننسي أن سيد جلال كان صاحب فكرة قوانين مشهورة مثل "من أين لك هذا" .. و"عدم جواز تملك الأجانب للأراضي الزراعية والعقارية"، و"استغلال النفوذ"، و"محاكمة الوزراء"، و"الضريبة التصاعدية علي الدخل العام"، و"خفض الإيجارات الزراعية".. وغيرها، ولم تتوقف جهود الرجل عند حدود الرقابة أو التشريع وسن القوانين فحسب، بل أسهم عن طيب خاطر وبسخاء مشهود بثروته في بناء مشروعات حمل بعضها - ولا يزال – اسمه، مثل مستشفاه الذي لا يزال قائما في حي باب الشعرية.[5] 
   وحين ازدحمت الفصول الدراسية في ذلك الحي الشعبي، وضاقت بطلابها اضطرت وزارة المعارف - آنذاك - إلي إغلاق أبوابها في وجوه التلاميذ الجدد؛ فما كان من سيد جلال إلا أن سارع ببناء خمسة فصول إضافية علي نفقته الخاصة .. وحين اجتاح وباء الكوليرا مصر في عام 1947م، وسيطر الفزع علي أهلها، فبادر الرجل - كعادته - بتوفير المصل الواقي من ماله الخاص، وأشرف بنفسه علي عملية التطعيم .. وِبمِثل ما أجاد الرجل بماله في الأزمات السابقة، تبرع كذلك بخمسمائة جنيه أثناء حرب فلسطين، وتنازل عن مكافأته البرلمانية لصالح الجيش المصري. 
   تُري كم "سيد جلال" بيننا الآن؛ بل هل يوجد رجال بقامة "علوي حافظ"، و"محمود القاضي"، و"ممتاز نصار" و"عادل عيد" وغيرهم، ممن كانوا يُجيدون لغة الإقناع والحوار، وجمعوا بين ممارسة دورهم في الرقابة والتشريع وبين تقديم الخدمات دون أن يطغي واحد من تلك الأدوار علي الآخر، وصولا لمصلحة الوطن والمواطن في هدوء دون افتعال أو إثارة أزمات.. وفي ذات يوم من أيام 1987 سمعنا خبر صدمنا وأصابنا باضطراب؛ بل زرفت الدموع علي إثره، وتكدر الخاطر لذكره، كان الخبر هو رحيل البرلماني الكبير.
ففقدنَاهُ لكن نفعُه الدهر دائمٌ
وما مات من أبقي عُلُومّاً لمن وعاَ
وكأني أسمع أحد الشعراء يرثوه:

وقال شاعر آخر:
يفيدوننا من علمهم علم ما مضي
وعقلا وتأديبا ورأياً وسؤددا


[1] يمتاز أهل أسيوط بالكرم الشديد بل الصعيد كله يمتاز بهذا الكرم العربي، فإن أصل الكثير من هؤلاء الصعايدة، قد جاءوا مع الفتح الإسلامي لمصر عام 621 هـ ، فالكرم موروث فيهم كابرا عن كابر.
[2] الشخص العصامي: كلمة العصامي  تطلق على كل من ينجح ويصل إلى مراتب عالية بجده واجتهاده ولا يعتمد في ذلك على غيره من عشيرة أو قبيلة أو حتى إرث". وقد نسب المفهوم العام للكلمة إلى "عصام بن شَهبَر الجِرمي"، حاجب النعمان بن المنذر وأصل التنويه هو قول النابغة الذبياني فيه حيث قال:
نفس عصام سوّدت عصامِاً ... وعلمته الكر و الإقداما  
وجعلته ملكاً هماماً ... فتعالى وجاوز الاقواما 
ومن هنا اتخذت نفس عصام مثلاً لمن يرفع قدره بنفسه غير متكل على الآخرين من قومه ولا على مفاخرهم. وعكسها كلمة «عظامي»، أي يعتمد على عظام أجداده.

[3] قال ذلك في حديثه عن الذكريات البرلمانية التي نشرها بمجلة مجلس الشعب في مارس 1995م
[4]  http://islamonaa.yoo7.com/t99-topic

[5] جريدة الجمهورية بتاريخ 25/11/2010.