الأربعاء، 1 مايو 2013

سيد جلال (شيخ البرلمانيين)


سيد جلال (شيخ البرلمانيين)
بقلم الباحث/ مصطفي محمود علي
باحث في التاريخ الحديث والمعاصر جامعة القاهرة

لم تكن شهرته التي عمت أرجاء المحروسة، لكثرة بسبب ما تبرع به من أموال للمستشفيات والمعاهد والملاجئ والمساجد والمدارس وغيرها، من أفعال الخير التي تعد من محاسن الأعمال ومفاخر أهل الإسلام، ولم ترجع هذه الشهرة لأنه ظل 40 عاما في البرلمان، حتى لقب بــ"شيخ البرلمانين"، واشتهر بذلك لمِا قدمه من أعمال عظيمة في خدمة البلد، إنما ترجع هذه الشهرة لأنه كان صادقاً مع نفسه محباُ لوطنه، وقديماً قالوا: "حب الوطن من الغني" ولا تنتظر أن تُعطيك بلدك شيئاً فلا بد أن تعطيها أنت و"متقولش إيه آدتنا مصر، قول هندي إيه لمصر".
نشأة سيد جلال:
   ولد عام 1899م  في بني عدي - مركز منفلوط, وكان والده يعمل في حراسة الحقول، وكان مشهور بالأمانة والإخلاص والشجاعة والكرم[1]، وبالرغم من فقره الشديد والقحط الذي كان يعيش فيه؛ ومن عجائب هذا الزمان أن ينزل مجموعة من الضيوف علي والد سيد جلال الرجل، فما كان منه إلا أن ذبح نعجته الوحيدة؛ التي كان ُيفاخر بها بين أهلة وجيرانه؛ ولم يجد الخبز فاستلف من جاره "الشيخ عبد السلام"، ثمن الخبز وأدي واجب الضيافة معهم علي ما هو مطلوب.  ولم ينسي "علي باشا مبارك" عندما كتب خططه أن يمدح (بني عدى) ذات المواقف المشهودة في التاريخ، فقد ذكرهم بما يدل علي الثناء الجميل وطول الباع في العلم والخلق.
    تر ك سيد جلال بني عدي في أواخر العقد الثاني من عمره بعد وفاة والده، وبعد أن تعلم مبادئ القراءة والكتابة، فسارت به القافلة إلي بور سعيد، والإسكندرية، والقاهرة، وتقلب في عدة أعمال حرة وتعرف علي أحوال الناس وذاق مُر العيش وحلاوته؛ ثم جمع من أعماله ثروة كبيرة وأصبح من كبار الأثرياء بمصر، وهو رجل عصامي[2] فعال للخير والبر والإحسان، وطار صيته في مصر لكثرة ما تبرع به من أموال، فهو صورة فريدة لشخصية يعتز بها كل عدوي.
*   *   *
يقول عبد الفتاح الديب[3] عن سيد جلال ما نصه: "في تاريخ المجلس التشريعي شخصيات برلمانية لا تنسي، سواء بالنسبة لمواقفها أو لتاريخها أو لسماتها، وهي نعمة من الله يعطيها لمن يشاء، ويكتب معها القبول لدي الناس، ومن هؤلاء الرواد التاريخيين نائب ظل نائباً طوال عمره، وترك بصمة لا تُمحي في سجل المجلس التشريعي، وهو النائب سيد جلال نائب باب الشعرية، الذي كان يجلس أمام لجنة الانتخابات لمجلس الأمة، خالعاً طربوشه وهو يضعه علي ركبتيه، وكان الناخبون يخرجون بعد أن أدلوا بأصواتهم ويضع كل ناخب قرشاً أو نصف قرش، وهو يجلس مبتسماً واثقاً محاطاً بالحب والإعزاز في وقت كانت فيه أصوات الناخبين ٌتشترى، وكان الجنيه يقطع نصفين يأخذ الناخب نصف الورقة المالية، ويحتفظ المرشح أو وكيله بالنصف الآخر، ليسترده الناخب بعد أن يقوم بالواجب لصالح المرشح الذي دفع".
   صورة نادرة لم تحدث من قبل؛ أن يخرج عامل كان يحمل الزلط علي كتفيه وذاق قسوة الحياة، يخرج من صفوف العمال الكادحين ليصبح مليونيرا، وليدخل المجلس النيابي، من أوسع أبوابه غير مستند إلي حزب أو قوة تدفعه إلي البرلمان.
   هكذا كان سيد جلال تحت القبة فارساً، من نوع نادر محتفظاً بلهجته الصعيدية، وكان فخوراً بها تحدث في أعقد القضايا وأدقها، وتكلم في القضايا الاقتصادية وكان يعبر عن رأيه بالألفاظ العامية البدائية، التي فيها بساطة وروح العدوية –لهجة بني عدى- فإذا بأساتذة الاقتصاد يصفقون له، وكان يحكي تحت القبة تجربته الشخصية في الحياة والدروس المستفادة منها، كأعظم أديب شعبي، بأسلوبه السهل السلس فيغزل من الفلكلور موسوعة علمية؛ وأن زملاؤه النواب جميعاً كانوا يحترمونه جداً ويقدرون آراءه.[4]
*   *   *
هل يتكرر نموذج "سيد جلال" في البرلمان الجديد ..؟
   "لو رشح الحزب حجرا .. لانتخبناه" .. عبارة شاعت عند كل انتخابات برلمانية قبل ثورة يوليو 1952م، والمعني فيها لا تخطئه عين، بغض النظر عن الحزب المقصود هنا أو درجة شعبيته، فلم يكن اسم المرشح - وقتها - مهما لدي الناخبين بقدر ما يعنيهم الحزب الذي سيقف وراءه، والبرنامج الذي يسعي لتحقيقه، ومن ثم فلم يكن هناك مجال لظهور "أمراض انتخابية" كالتي تشيع بيننا الآن، من شراء الأصوات بالمال، والرشاوى الانتخابية، إلي الخداع بالشعارات المُضللة، إضافة إلي البلطجة، وتغليب العصبيات وغيرها، ولم يعد كثير من المرشحين يُعرَفون اليوم بأحزابهم .. بل صار لسان حال بعضهم أو أغلبهم يقول: " لو رشح الحزب - أي حزب - غيرنا لخلعنا رداءه وتخلينا عنه، وناصرنا عليه خصومه ومعارضيه .." 
   الالتزام الحزبي، هو الإطار الحاكم لعلاقة المواطن بأي حزب ينتمي إليه، في كل دول العالم، وهو القاعدة التي يرتكز عليها احترام المبادئ والأهداف الحزبية، فإذا تجرد العضو من التزامه الحزبي فمن الطبيعي، أن تحوم الشبهات حول حقيقة دوافعه ونواياه، وبواعث انضمامه لهذا الحزب أو ذاك، وأسباب سعيه إلي كسب عضوية البرلمان من خلاله، فالحزب هنا وسيلة لنيل الحصانة، والحصانة هنا ستار لما خفي من الأغراض.
   وإذا كنا نشكو اليوم كثرة المرشحين للبرلمان، بما يخلق صعوبة في المفاضلة والاختيار الدقيق، ويشتت أذهان الجماهير ويفتت أصواتهم .. وهو ما يجعلنا نترحم علي الماضي البرلماني الجميل، ذلك الذي شهد نوَّابا حقيقيين؛ خرجوا من صفوف الكادحين؛ وحملهم الناس علي أكتافهم إلي المجلس "الموقر"، لإيمانهم بمصداقيتهم ونبل مقاصدهم .. فعضويتهم بالبرلمان لم تكن لعلة أو غرض في أنفسهم، بل كانت خالصة لوجه الشعب، وليست مجرد وسيلة لحصد المغانم واستغلال الفرص والمكاسب. 
   ولعل شخصية سيد جلال تفرض نفسها بقوة في كل الآونة، ولو عدنا إلي (الزمن الجميل) كما يسمونه، لتذكرنا ذلك النائب البرلماني الشعبي الأصيل والاقتصادي البارع .. الذي لم يكن يبحث حين ترشح للبرلمان عن حصانة أو وجاهة، بل كان صوتا مُخلصا للشعب، وقامة برلمانية عالية، وشعلة من النشاط ونائبا عن الأمة كلها، فلم يجد خصومه قبل أنصاره بدا من احترام آرائه واجتهاداته وتوجهاته وعطائه وتفانيه في خدمة الناس جميعا. 
  وحين نُقلب صفحات هذا البرلماني القدير، حين خاض أولي دوراته البرلمانية بين عامي 1945 حتى 1950م، نجده قدم مشروعات قوانين تنم عن وعي وحس سياسي واجتماعي عميق، وانتماء شعبي فريد، وعقل فذ سبق زمانه ورأي الحاضر بعيون المستقبل؛ وكأنه موجود بيننا الآن .. وعلي النقيض من ذلك تماما، نجد كثيرا من نواب اليوم مُهتمين بالجري وراء تأشيرات الوزراء، أكثر من اهتمامهم بالدور الحقيقي للنائب في الرقابة والتشريع .. حتى صار الناخب هو الآخر ميالا بطبعه لانتخاب "نائب الخدمات"، أكثر من تفضيله للنائب السياسي والتشريعي الفاهم لطبيعة مهمته ..! و-أعتقد- أن تلك ظاهرة لابد أن تتغير أولا بتوعية الشباب بأهمية العمل السياسي، وضرورة ممارسة السياسة، من خلال الانتساب للأحزاب، كتطور طبيعي لما نشهده اليوم من حراك سياسي. 
   ولا ننسي أن سيد جلال كان صاحب فكرة قوانين مشهورة مثل "من أين لك هذا" .. و"عدم جواز تملك الأجانب للأراضي الزراعية والعقارية"، و"استغلال النفوذ"، و"محاكمة الوزراء"، و"الضريبة التصاعدية علي الدخل العام"، و"خفض الإيجارات الزراعية".. وغيرها، ولم تتوقف جهود الرجل عند حدود الرقابة أو التشريع وسن القوانين فحسب، بل أسهم عن طيب خاطر وبسخاء مشهود بثروته في بناء مشروعات حمل بعضها - ولا يزال – اسمه، مثل مستشفاه الذي لا يزال قائما في حي باب الشعرية.[5] 
   وحين ازدحمت الفصول الدراسية في ذلك الحي الشعبي، وضاقت بطلابها اضطرت وزارة المعارف - آنذاك - إلي إغلاق أبوابها في وجوه التلاميذ الجدد؛ فما كان من سيد جلال إلا أن سارع ببناء خمسة فصول إضافية علي نفقته الخاصة .. وحين اجتاح وباء الكوليرا مصر في عام 1947م، وسيطر الفزع علي أهلها، فبادر الرجل - كعادته - بتوفير المصل الواقي من ماله الخاص، وأشرف بنفسه علي عملية التطعيم .. وِبمِثل ما أجاد الرجل بماله في الأزمات السابقة، تبرع كذلك بخمسمائة جنيه أثناء حرب فلسطين، وتنازل عن مكافأته البرلمانية لصالح الجيش المصري. 
   تُري كم "سيد جلال" بيننا الآن؛ بل هل يوجد رجال بقامة "علوي حافظ"، و"محمود القاضي"، و"ممتاز نصار" و"عادل عيد" وغيرهم، ممن كانوا يُجيدون لغة الإقناع والحوار، وجمعوا بين ممارسة دورهم في الرقابة والتشريع وبين تقديم الخدمات دون أن يطغي واحد من تلك الأدوار علي الآخر، وصولا لمصلحة الوطن والمواطن في هدوء دون افتعال أو إثارة أزمات.. وفي ذات يوم من أيام 1987 سمعنا خبر صدمنا وأصابنا باضطراب؛ بل زرفت الدموع علي إثره، وتكدر الخاطر لذكره، كان الخبر هو رحيل البرلماني الكبير.
ففقدنَاهُ لكن نفعُه الدهر دائمٌ
وما مات من أبقي عُلُومّاً لمن وعاَ
وكأني أسمع أحد الشعراء يرثوه:

وقال شاعر آخر:
يفيدوننا من علمهم علم ما مضي
وعقلا وتأديبا ورأياً وسؤددا


[1] يمتاز أهل أسيوط بالكرم الشديد بل الصعيد كله يمتاز بهذا الكرم العربي، فإن أصل الكثير من هؤلاء الصعايدة، قد جاءوا مع الفتح الإسلامي لمصر عام 621 هـ ، فالكرم موروث فيهم كابرا عن كابر.
[2] الشخص العصامي: كلمة العصامي  تطلق على كل من ينجح ويصل إلى مراتب عالية بجده واجتهاده ولا يعتمد في ذلك على غيره من عشيرة أو قبيلة أو حتى إرث". وقد نسب المفهوم العام للكلمة إلى "عصام بن شَهبَر الجِرمي"، حاجب النعمان بن المنذر وأصل التنويه هو قول النابغة الذبياني فيه حيث قال:
نفس عصام سوّدت عصامِاً ... وعلمته الكر و الإقداما  
وجعلته ملكاً هماماً ... فتعالى وجاوز الاقواما 
ومن هنا اتخذت نفس عصام مثلاً لمن يرفع قدره بنفسه غير متكل على الآخرين من قومه ولا على مفاخرهم. وعكسها كلمة «عظامي»، أي يعتمد على عظام أجداده.

[3] قال ذلك في حديثه عن الذكريات البرلمانية التي نشرها بمجلة مجلس الشعب في مارس 1995م
[4]  http://islamonaa.yoo7.com/t99-topic

[5] جريدة الجمهورية بتاريخ 25/11/2010.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق