الأحد، 23 نوفمبر 2014

المفكر الاسلامي الكبير أنور الجندي

                      المفكر الاسلامي الكبير أنور الجندي

بقلم الباحث/ مصطفي محمود علي
باحث في التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة
history2010@hotmail.com 
   قال يوما: "يجب ألا تستغرقنا التفاصيل والجزئيات وأن نظل دائما قادرين على امتلاك ناصية الأصول العامة، والمسائل الرئيسة والمواقف الأساسية، وجمع الخطوط الكبرى، في تكوين متكامل يجعلنا قادرين على النظرة الكلية الدائمة، وذلك هو مفهوم التكامل الذي علمنا الإسلام إياه". هذه هي الكلمات التي كان يرددها المفكر الكبير أنو الجندي.
   ونحن إزاء شخصية مفكر وفيلسوف وباحث متجرد شديد العمق واسع العطاء، لا يتطلع إلى أي شيء في الحياة غير أمر واحد، هو أن يقول كلمته ويعيش لفكرته التي َجنَّد لها كل ما أتاه الله من مواهب وقدرات.
   ولد الجندي عام 1917م بـ (ديروط) التابعة لمحافظة أسيوط ، وهي واحدة من أجلّ بلاد الصعيد، وقد سماه والدية بهذا الاسم (أنور) تيمنا وإعجابًا باسم القائد التركي أنور باشا الذي اشترك في حرب فلسطين -والذي كان ذائع الشهرة حينئذ.
   لقد حفظ القرآن الكريم كاملاً في كُتَّاب القرية في سن مبكرة، ثم ألحقه والده الذي كانت له علاقاته وصداقاته التجارية بوظيفة في بنك مصر، بعد أن أنهى دراسة التجارة بالمرحلة التعليمية المتوسطة، ثم واصل دراسته أثناء عمله، حيث التحق بالجامعة في الفترة المسائية، ودرس الاقتصاد وإدارة الأعمال، إلى أن تخرج في الجامعة الأمريكية، بعد أن أجاد اللغة الإنجليزية التي سعى لدراستها حتى يطَّلع على شُبهات الغربيين التي تطعن في الإسلام. وقد عمل بصحيفة (الجمهورية) لفترة ثم ترك الصحافة إلي غير رجعة، وبقي يعيش من كتبه حتى توفي.

رحلة أنور مع الكتابة:
   لقد بدأ رحلته مع الفكر والكتابة مبكراً، حيث نشر في مجلة "أبولو" الأدبية التي كان يحررها الدكتور "أحمد زكي أبو شادي" عام 1933م، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل "حافظ إبراهيم"، فجرَّد أنور الجندي قلمه، وأجاد في الكتابة عن حافظ إلى حد أنه يقول: "ما زلت أفخر بأني كتبت في (أبولو) وأنا في هذه السن (17) عامًا، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذٍ مثل البلاغ، وكوكب الشرق، والرسالة، وغيرها من المجلات والصحف. ثم مضي يقرأ وينهل من معين المعارف المختلفة حتى رسم لنفسه مساراً آل علي نفسه ألا يمتد في غيره وهو: "الإسلاميات والأدب العربي"، وكان أول كتاب له بعنوان (مصابيح علي الطريق) عن حياة الريف المصري، والكتاب الثاني (اخرجوا من بلادنا) ينتقد فيه الإنجليز فسجن بسببه.
   ثم واصل هذا الرجل –الفريد- رحلته التي رصد كل لحظة فيها لنصرة الإسلام، فوقف على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين ومعاقلهم فاجتاحوها؛ ألا وهو باب "الغزو الفكري". فكان أنور الجندي بحق هو الأمين الأول على الثقافة الإسلامية لأربعة أجيال متعاقبة: جيل البناء والتأسيس، وجيل الصبر والجهاد، وجيل التكوين والانتشار، وجيل التربية والمستقبل.
   تُشكل سنة 1940م علامة فارقة في حياة العلامة أنور الجندي بعد قراءته لكتاب "وجهة الإسلام" لمجموعة من المستشرقين. هذا الكتاب الذي لفت نظره إلى حجم المؤامرة على الإسلام، ووضع أقدامه على الطريق الطويل لمعركة المسلمين في ميدان البقاء. فما كان من أنور الجندي إلا أن قال: "هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري والأجنبي والغزو الثقافي".
   وبدأ أنور الجندي بميدان الأدب أكثر الميادين غزوًا في حينها، وأعلاها صوتًا، وأوسعها انتشارًا، فواجه في هذا الميدان قممه جميعًا: طه حسين، والعقاد، ولطفي السيد، وسلامة موسى، وجورجي زيدان، والحكيم، ونجيب محفوظ.
   وأقام الموازين العادلة لمحاكمة هؤلاء إلى ميزان الإسلام وصحة الفكرة الإسلامية، فأخرج عشرات الكتب من العيار الفكري الثقيل مثل: "أضواء على الأدب العربي المعاصر"، و"الأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية"، و"أخطاء المنهج الغربي الوافد"،و"إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام"، خص منها طه حسين وحده بكتابين كبيرين، هما، "طه حسين وحياته في ميزان الإسلام"، و"محاكمة فكر طه حسين"؛ ذلك لأن الجندي كان يرى أن: "طه حسين هو قمة أطروحة التغريب"، وأقوى معاقلها؛ ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هو قمة الأعمال المُحَرِرَة للفكر الإسلامي من التبعية.
   وكان مفكرنا يرى أن فصل الأدب عن الفكر -وهو عنصر من عناصره- أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعًا أمام الأدب؛ ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية. ومن ثَمَّ فقد أنصف الجندي في كتاباته الرصينة أصحاب الفكرة الإسلامية الصحيحة، من أمثال "الرافعي" و"الثعالبي" و"باكثير" و"محمد فريد" و"وجدي" و"السحار" و"كيلاني" و"تيمور… وغيرهم من الذين ظلمهم المتغربون وأبنائهم من المعاصرين، ونال في هذا الطريق كثيرًا من الأذى والظلم، فضلاً عن أنه اعتقل لمدة عام سنة 1951م.
الجندي بين حسن البنا والحركة الإسلامية:
   التقى المؤرخ العملاق والمفكر الكبير أنور الجندي بالإمام الشهيد حسن البنا في بواكير حياته، فكان هذا اللقاء -حقًّا- مباركًا، وكانت بيعة الرجل الأمين زادًا أصيلاً على طريق النور، أخذ فيه الجندي نفسه بنفسه على وضع منهج إسلامي متكامل لمقدمات العلوم والمناهج، يكون زادًا لأبناء الحركة الإسلامية، ونبراسًا لطلاب العلم والأمناء في كل مكان.، وبلغ تأثره بالبنا أن خصه بثلاثة كتب أوَّلها في صدر شبابه، عام 1946م بعنوان: "الإخوان المسلمون في ميزان الحق"، وكتاب "قائد الدعوة.. حياة رجل وتاريخ مدرسة"، ثم اختتم حياته المباركة بكتابه النفيس "حسن البنا.. الداعية الإمام والمجدد الشهير".
    ولما أتت محنة الإخوان المسلمين في سجون عبد الناصر، عافاه الله منها ومن أتونها، وكان ذلك من حكمة القدر حتى لا تخلو ساحة الدعوة من داع، فكان "الغزالي" يصدح بالحق على المنابر وفي الكتب، وكان أنور الجندي يبين الحق ولكن دون أن يكون اتجاهه الإسلامي بارزا، في هذا الوقت فقد كان يكتب في المجلات غير الإسلامية تراجم لقادة التحرر والثورة ذوي التوجه الديني، كعمر المختار وعبد القادر الجزائري، وغيرهما، وذلك في مجلة (المجتمع) المصرية ذات التوجه الاشتراكي في فترة الخمسينيات والستينيات. ويقول عن هذه الفترة: (لقد كان من إيماني أن يكون هناك صوت متصل، وإن لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي ليقول كلمة الإسلام ولو تحت أي اسم آخر، (ولم يكن مطلوبا من أصحاب الدعوات أن يصمتوا جميعا وراء الأسوار).
إسهاماته
   وكان الأستاذ "أنور الجندي" باحثاً دءوبا وذو همة عالية، وهو يقول عن نفسه مبينا دأبه في البحث والاطلاع: "قرأت بطاقات دار الكتب، وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها، وراجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، وراجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاماً، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن، كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على موضوع معين في وقت ما".
    وقد أخذ "الجندي" على نفسه وضع منهج إسلامي متكامل لمقدمات العلوم والمناهج، يكون زادًا لأبناء الحركة الإسلامية، فأخرج هذا المنهج في 10 أجزاء ضخمة يتناول فيه بالبحث، الجذور الأساسية للفكر الإسلامي، التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة.
   ويذكر أن: هذه الموسوعة الضخمة تعجز الآن عشرات المجامع ومئات المؤسسات والهيئات أن تأتي بمثلها، أو بقريب منها، وكان لحسن البنا أثر كبير في إخراج تلك الموسوعة. ومن القضايا الرئيسية التي شغلت حيزاً كبيراً من فكره، هي قضية تحكيم الشريعة الإسلامية، حيث كان يقول: "أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة".
مؤلفاته وجوائزه:
   كان الأستاذ أنور الجندي يحترم عقلية القارئ الذي يقرأ له، وكان لا يقدم على كتابة كتاب إلا إذا رأى فائدة ترجى من ورائه، وكان لا يقدم على كتابة موضوع أو إبداء رأي إلا إذا كان ملما به إلماما كاملا. وقد صنف "الجندي" ما يربو على (مائتي) كتاب وأكثر من (ثلاثمائة) رسالة في مختلف قضايا المعرفة والثقافة الإسلامية. علاوة على مكتبة عامرة بعلوم العربية والعلوم الشرعية والصحف والمجلات الأدبية والثقافية في مصر والوطن العربي، إلى جانب أرشيفه الصحافي الخاص، الذي يضم آلاف الموضوعات السياسية والثقافية والفكرية طوال القرن الماضي
 وقد شارك أنو الجندي في العديد من المؤتمرات الدينية التي عقدت بعواصم العالم الإسلامي، وكان رافضاً للجوائز، وبالرغم من ذلك حصل علي جائزة الدولة التقديرية عام 1960، زاهداً في الأضواء والظهور وعاش ومات فقيراً، و عندما يسأل عن ذلك يقول: "أنا اعمل للحصول على الجائزة من الله ملك الملوك" وقد خلف ثروة فكرية أغلي من كل كنوز الأرض![1] ومن أهم كتبه: "أسلمة المعرفة"، و"نقد مناهج الغرب"، و"الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية"، و"اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار"، و"أخطاء المنهج الغربي الوافد"، و"تاريخ الصحافة الإسلامية"، و"أحمد زكي شيخ العروبة"و"السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية" و"معالم التاريخ الإسلامي" و"محاكمة فكر طه حسين" وكان آخر كتبه هو كتاب "نجم الإسلام لا يزال يصعد
   وقد أوصى قبل وفاته بأن يتم تصنيف كتبه ومكتبته كلها، ثم دفعها لمؤسسة إسلامية تقوم بطرح هذه المكتبة للجمهور من القراء والباحثين للاستفادة منها، وقد شدد على أن كل تراثه الفكري يجب أن يكون وقفاً للمسلمين.
من أقول أنور الجندي
   "لقد تبين من خلال الدراسة الموسوعية كم هي خطيرة تلك المؤامرة التي رسمها التغريب والاستشراق والتبشير والغزو الفكري من أجل تزييف مفهوم الإسلام واحتوائه وتفريغه، من قيمه في دائرة الفكر البشري للحيلولة بينه وبين العطاء الحقيقي، وتبليغ رسالة الله تبارك وتعالى بوصفه الدين العالمي الخاتم".
    "أستطيع أن أقول إنني عشت مرحلة نقد المجتمع من 1940 – 1950 ، ثم عشت مرحلة معالجة الواقع 1950 – 1964 ، وفي هذه المرحلة تناولت القضايا الوطنية والقومية، وهي مرحلة تقبلت فيها بعض المفاهيم المطروحة قبل أن أعرف خفاياها التي اتضحت لي فيما بعد . ثم بدأت من 1964 مرحلة جديدة لتصحيح المفاهيم بعد سيطرة الشيوعية على بلاد الإسلام، وفي هذه المرحلة أستطيع أن أكشف كثيرا من الحقائق".
   "فلنحذر هذا البريق، ولنحذر من الأسماء اللامعة، والكلمات الغامضة لنضع هؤلاء الكتاب على مقاييس علم الجرح والتعديل ولا ننظر في آرائهم حتى نتأكد من أن شخصياتهم كانت مثلا عاليا في الخلق والكرامة".
الرجل بكته الأرض والسماء:
   يُذكر للجندي بحروف من نور أنه الرجل الذي أسس مدرسة (الأصالة الفكرية المعاصرة في الأدب)، فأنصف أقوامًا وهدم آخرين. وفي الاجتماع فكشف زيف فرويد وماركس ودارون ودور كايم. وفي الفلسفة أنصف الغزالي وابن رشد والفارابي وابن سينا والخيام.
   توفي الكاتب الإسلامي المرموق الذي عاش للإسلام وعاش بالإسلام، وعاش للإسلام ينافح عنه، ويدافع عن مبادئه، ولم يتوانَ يوما في الذود عن حياضه، وكشف زيف من يحاربونه وإن تستروا بأستار تنطلي على كثير من الناس.
   لقد كان من ُخلق الرجل أنه لم يعنى بجمع المال، ولو أراد ذلك لفعل، فقد كان للأستاذ حضور في عدد من صحف الخليج وغيرها، على رأسها مجلة (منار الإسلام) [2]الذين تراكم عندهم مبالغ مالية لمترجمنا، والأخير لا يعتد بها أبدا، بل كان زاهدا في دار الفناء يعد الزاد لدار البقاء. ولم ينتهي عام 2002 إلا وكان أنور الجندي في ضيافة الرحمن المنان.
   رحم الله الفارس العظيم رائد مدرسة الأصالة الفكرية، وقائد كتائب المقاومة في ميادين التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الفكري، إنه الرجل الذي عاش عمره كله في حقل الفكر الإسلامي، يقاتل من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة ورد الشبهات الباطلة والأقاويل المضللة وحملات التغريب والغزو الفكري، وما خطَّ فيها كلمة أو أكل لقمة إلا وهو على وضوء [3].
وصدق أبي الحسين التهامي حين قال:
حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يُرى الإنسان فيها مخبراً
حتى يرى خبراً من الأخبار




[1] لمعي المطيعي: موسوعة 1000 شخصية مصرية، ط الأولي، مكتبة الدار العربية للكتاب، 2006م، ص 134
[2] الجمعية الدولية للمترجمين واللغوين العرب:  http://www.wata.cc/forums
[3] موقع قصة الإسلام: الأربعاء 3 ربيع الثاني 1434 - 13 02 2013، http://islamstory.com